حميد بن مسلم السعيدي
مضت أربعون يوماً من الألم الذي أوجع قلوبنا، مضت أربعون ليلة لم تمر دون أن ندعو بالمغفرة والرحمة للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- ظلت سماء عُمان مُلبدة بغيوم الحزن والألم على رجل ليس كأي الرجال، فهو السلطان الذي لم يبنَ عُمان فحسب، وإنما بنى الإنسان والوطن والأرض، بنى الفكر والعقل، بنى دولة عظيمة، وتاريخا مخلدا في عمق الزمن.
فنحن نحزن لأنَّ المصاب جلل، والحزن أشد مما يتصوره أحد، مضت أربعون يوماً وهذا الوطن يذرف دموع الفراق والوداع الأخير الذي حمل النعش الأخير والصوت الأخير، فلم نعد نسمع صوتك يا أبي، ولم نعد نحسب الأيام لشهر نوفمبر المجيد الذي نستمع فيه لكلماتك ولأقوالك التي كانت تُنير لنا دروب العمل والعطاء لأجل عُمان، لن نترقب الزوار الذين يأتون للقاء بك من أجل أن نرى ابتسامتك، فقد مضت الأيام ومضى معها عهد من نصف قرن من الزمان كُنت تعمل فيها لأجل الوطن، فالتضحيات كانت جسيمة والعطاء كان عظيماً لأنها عُمان.
خمسون عاماً رسمت على جدران التاريخ ملحمة عُمانية خالدة تنقش أحداثها على أوراق قلوبنا، لتحكي قصصاً من النجاحات العظيمة التي لم يُدركها ولن يُدركها الكثيرون، فالعمل لم يكن وحده فقط من أجل التنمية وبناء الإنسان، وإنما كانت هناك أعمال وأحداث كثيرة لم يعرفها جل النَّاس، لأنها كانت من أجل عُمان، ومن أجل أن يرى المُواطن ما يريد أن يراه، وبما يسعد ذاته ليعيش محباً وعاشقاً لتراب هذا الوطن، فمهما كُتبت المقالات عن تلك الإنجازات فإنها لا تروي إلا القليل من تلك الأيام، ومهما ألفت الكتب فإنها لن تكفي لتروي قصص النجاح، فالعمل كان مُستمراً والعطاء كانت مجهداً، والنجاحات كانت شاهدةٌ على تلك الفترة الزمنية والتي تُعد من أزهى عصور التاريخ العُماني العظيم، ذلك التاريخ الذي يخلد ذكرى القادة العظماء الذين عملوا من أجل عُمان، فهذه الأرض يعود عهدها لخمسة آلاف سنة قبل الميلاد، مرت بتاريخ وأحداث عظمية خلدها التاريخ العُماني، وما صنعه قادة هذا الوطن بقي بالذاكرة العمانية، وما حدث في نصف القرن الماضي هو ملحمة من الإنجازات التي يحتفي بها الإنسان العماني. فهكذا نحن نطوي مرحلة مضت ونستفتح تاريخا حديثا بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم، بها نمضي معاهدين الله والوطن بالإخلاص والأمانة.
هكذا يمضي التاريخ العُماني ولكن ينبغي أن نقف قليلاً لقراءته وتحليله، من أجل أن نعي جيداً معنى وعظمة الخمسين عاماً التي مضت، الأمر الذي يعود بنا إلى عام 1970م، الخمس سنوات الأولى من تاريخ النهضة العمانية الحديثة، تلك الفترة شبيهة بما حدث من أحداث بعد وفاة المغفور له السلطان سعيد بن سلطان باني إمبراطورية عُمان العظيمة والتي شملت أجزاءً كبيرة من أراضي شرق أفريقيا وسواحل الخليجين العربي والهندي، فما حدث بعد وفاته من أحداث وتدخلات أجنبية وصراعات داخلية كان سببا في ضياع ذلك الإنجاز، وما حدث في عام 1970م كانت سبباً في إعادة البناء من جديد، كنَّا نشعر ونحن نقرأ ذلك التاريخ أن التطوير كان في التنمية وبناء البنية التحتية وتوفير احتياجات المُواطن العُماني، ولكن السنوات الأولى من ذلك التاريخ مرت بأحداث لابد من كشف ملفاتها ليُدرك أبناء هذا الوطن، عظمة هذا السلطان وحكمته تمثلت في قيادة سفينة عُمان في أشد العواصف والأعاصير الداخلية والخارجية في تلك الفترة، ولكنه كان قائداً وقبطاناً ذكياً وحكيماً، فسار بتلك السفينة وعبر بها منطقة من أشد الصعاب كانت في التاريخ العُماني الحديث، مرت دون أن يشعر الكثيرون ماذا حدث في تلك الفترة الزمنية القصيرة ولكنها كانت طويلة لحظة العبور، ثم بدأت مرحلة البناء من أجل عُمان، بعد أن استقرت أو يمكن القول هدأت لحظة الإنجاز.
هذا التاريخ ينبغي أن يكتب من قِبل الباحثين العُمانيين وأن يقرأ ويُحلل فكرياً ومنطقياً ليُدرك أبناء هذا الوطن ما حدث في بداية النَّهضة العُمانية، خمسون عاماً مرَّت عُمان بالعديد من الأحداث والإنجازات التي بقيت في الذاكرة العُمانية، هذه الذاكرة التي ينبغي صياغتها من أجل أن تقرأها الأجيال والأجيال القادمة التي لم تدرك بعد معنى النهضة العُمانية الحديثة، ذلك التاريخ الذي نقش في صدورنا ينبغي أن يكتب ليعرف العالم سر هذا الحب الخالد في قلوبنا، إنه حُب قابوس.
يسير بنا هذا النهج السُّلطاني لندرك معنى القيادة الحكيمة، فهو لم يكن حكيماً في حياته فحسب، وإنما بعد وفاته، فقد رسم مسار انتقال السلطة والتي أخذت فترة زمنية قصيرة جداً لم يُدركها العمانيون، حتى جاءت الأخبار التي تزف بداية العهد الجديد، إنها عُمان التي تقدم درساً يتعلمه الآخرون من نهج يدل على معنى دولة السلاطين، هي اللحظات التي كانت من أشد الصعاب التي يمر بها الوطن، لحظة الفجر الحزين، لحظة الفجر الجديد، لحظة الوداع الأخير، ولحظة التتويج العظيم، فلحظة فتح الرسالة كانت أكثر عمقاً، فكنت حكيماً في حياتك ولحظة الوداع، فالرسالة لم تكن إلا صوتك الخالد، وكلماتك الخالدة التي كنت أنظر إليها كل يوم وهي تحكي عمق الفكر والعقل والمنطق واللغة، "نشير بأن يتولى الحكم السيد هيثم بن طارق"، أشرت لهم بالشورى وليس بالأمر، وليس بالوصية، أشرت عليهم أن يتولى، فأي عمق لغوي تصيغه حروفك، وأي فكر كتب تلك الكلمات. فشكراً لا توفي حقكم يا أبي، ومهما كتبنا من أجلك فأقلامنا لا تستطيع أن تصيغ الكلمات في حُبنا لك، ولا الأسطر تكفي ولا الأوراق تستوعب هذا الحُب الخالد في قلوبنا لك، فقد رحلت يا مولاي.
رحلت وقد اطمأن قلبك على هذا الوطن، رحلت ونحن مُعاهدين الله على أن نتبع نهجك ومدرستك وحكمتك، رحلت ونحن نثق في كافة المُواطنين الأوفياء الذين يضحون بأرواحهم من أجل هذا الوطن، رحلت وتركت مدرسة في إدارة الصعاب والمواقف، رحلت وعُمان بعدك تُقدم درساً في الصبر في أعظم مصيبة تعرضت لها، رحلت وعُمان تقدم للعالم نهجاً في انتقال السلطة وفقاً لما تأسس في دولة القانون والمؤسسات، رحلت وعُمان تقدم نهجاً في الوحدة الوطنية التي لن تجد ثغراً لاجتيازها من الأعداء، رحلت وعُمان تقدم ملحمة وطنية في اجتياز الصعاب والمحن، رحلت وهذه الأرض تستقبل جسدك الطاهر بروائح الجنة، والسماء تمطر بظلال الرحمة والمغفرة، رحلت والصمت يسود الوطن، رحلت والحزن هو راية عمان، فقد أوجعنا الحنين إليك، وأوجعتنا قلوبنا شوقاً إليك، فما عاد بالقلب حُب إلا حبك، ولا حزن إلا حزن فراقك.
اللهم أرحمه بفيض رحماتك وواسع مغفرتك ورضوانك، اللهم اسكنه فسيح جناتك، عظم الله أجوركم أبناء عُمان الأوفياء الكرام.