لنبدأ العمل وبناء عُمان

حمد بن سالم العلوي

إنَّ الرَّاحل -لا ريب- عظيم، والفقد حقاً جسيم، وهذا حكم إلهي يجريه الخالق في خلقه، وقد لا يعرف الكثير منا حقيقة النهضة العُمانية التي قادها المغفور له -بإذن الله تعالى- جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيَّب الله ثراه- إلا من عاش حُقب ما قبل عام السبعين، يوم كان الذي يسكن الظاهرة، يحتاج إلى أسبوع كامل لكي يذهب للتسوق من الباطنة، واليوم يقضي الناس حاجاتهم في ظرف زمان يقل عن ساعتين، والأماكن ما زالت هي نفسها، ولكن الزمن تغير، والظروف اختلفت، والوسائل كذلك، وقد كان السكان في خارج مسقط لا يتعلمون، ولا يُعالجون من الأمراض، وتكفيهم الزائدة الدودية لتقضي عليهم.

لقد مَات مُنقذ الأمة جسداً، ولكن ستظل روحه ترافقنا في الذي ورَّث من نهضة عظيمة مباركة، وهذا الموروث العظيم الذي أخرج عُمان وشعبها من ظلمات الجهل والعوز إلى النور.. فلن يموت في أذهاننا ووجداننا، وسيظل يذكره التأريخ بأحرف من نور.

إنَّه من المؤكد أنَّ كل من يذكره سيترَّحم عليه، وإن نسينا شخصه كإنسان لم يعد يلتقينا ونلتقيه، إلا أنه كقائد قاد هذه الأمة بحكمة واقتدار.. لن ننساه أبداً، وإن زارنا ريب المنون وألحقنا به، فقد ينسى البشر كبشر من لم تراه أعينهم بالتكرار، ولكن جلالة السلطان قابوس -طيَّب الله ثراه- سيظل يذكره التأريخ دوماً، ونحن نعلم أن العالم قد أبَّن جلالته في القبة الخضراء في الأمم المتحدة تأبيناً أجمع عليه العالم كافة، وقد ابَّنه مجلس الدولة عن الحكومة ومؤسساتها في الداخل والخارج، وكذلك أبَّنه مجلس الشورى عن الشعب العُماني؛ لذلك لا أرى مناسباً أن تقوم كل حارة أو كل ولاية بتكرار هذا التأبين، ثم تقوم كل مؤسسة حكومية أو شبه حكومية بتكرار التأبين بين الفينة والأخرى، ونحن العُمانيين نُجيد أسلوب التنافس، والتباري في شيء نظنه حسناً، فربما تحول الأمر إلى عرف وتقليد مع الوقت.

إنَّ الراحل حتماً لن يعود بجسده، وقد عوَّضنا الله بجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- وهو خير خلف لخير سلف، وقد زكَّاه لنا المغفور له بإذن لله، وهو رجل معروف من قبل ذلك، فهو يشبه جلالة السلطان قابوس -رحمه الله- في الكثير من صفاته وسماته، ويشبه عُمان في جدها وأمجادها، فما علينا إلا أن نمدَّ أيدينا مع يده من أجل استمرار النهضة، وتعلِية ما تم إنجازه من بناء ورقي لعُمان؛ فالتاريخ لا يُصنع بالتباكي والدموع على الماضي، ولا بالتباهي بالمحبَّة والوفاء الصوري، أو بتمنِّي التوفيق والسداد دون عمل، أو كثرة الوجلة على صفحات الجرائد، أو التزاحم على بوابات قصر العَلَم، وذلك بطلب المصافحة والوجاهة الإجتماعية، وإلقاء قصائد المديح والثناء، والكلام البليغ المنمَّق الجميل، وألا يتذبذب الرجال في قول الحق، ولا داعٍ للرياء وكثرة الانحناء، ما لم يكن قد قصَّر أحدنا يوماً في واجبه وإخلاصه للوطن، إذن الأوطان تبنى بالعمل الجاد والعرق والدم.

إنَّ موعدنا الخميس القريب لنخرج من واجب الحداد والتأبين، وسيُرفع العلم العُماني إلى قمة السارية، ذلك كما كان قبل يوم 11 من شهر يناير 2020؛ حيث سيكون يوم الخميس 20 فبراير 2020م تمام الأربعين من الحداد والحزن، وبداية عصر متجدد جديد في ظل قائد سيكون -بإذن لله- عظيم الشأن والمقدار، وسيرتقى بمعية الشعب العُماني الوفيّ على صهوة المجد إلى مدارج العزة والشرف، حتى تنجز عُمان ما تبقى عليها إكماله، وإنجاز ما لم ينجز من عمران وتنمية وتطور وتقدم، وبطريقة تواكب العصر الجديد، وحتى تعوّض النهضة العُمانية ما فاتها من فرص أصابها البطء والتهدئة؛ وذلك نتيجة لظروف قهرية فرضتها عوامل كثيرة من تقادير الخالق عز وجل، وعلينا كشعب عُماني مُؤمن بالله أن نعلم أنَّ كل شيء قدَّره الله لنا أو علينا، سيكون فيه خير لنا بإذنه تعالى.

إذن؛ لنضمَّ الصفوف ونبدأ العمل الجاد المنتج، وأن لا نقتدي بمن هو أدنى منا عزيمة وإنتاجًا، وألَّا نكون كالذي أصبح كالًّا على غيره، ينتظر منه العطاء والصدقة، فعُمان موطن للخير العميم، والمواطن العُماني إنسان عامل بجد وصبر، فلا ينتظر أن تقدم له الفرص على طبق من ذهب، وإن العُمانيين لا يجلسون بانتظار التشغيل كضباط في الجهات العسكرية، أو مديرين في المؤسسات الحكومية والخاصة، بتوصية دون جهد أو سعي مسبق، وإنما يشقُّون الطريق إلى المجد بأنفسهم، والعُماني سيضيع الوقت إذا ظل يتلفت حوله، ويجري المقارنات مع الجوار، فلن تكون مقارنات عادلة على الإطلاق، ونحن نؤمن بالاختلاف عن غيرنا في منهجنا وسلوكنا، وعلينا أن ننظُر إلى التاريخ لنأخذ منه العظة والموعظة والعبرة.

وأن نعمل أحسن من أجدادنا؛ وذلك بما هيَّأ الزمان لنا من وسائل، وإمكانيات توفرت لنا اليوم، واستحال عليهم توفير مثلها في زمنهم الغابر، وكل الذي نطلبه اليوم من الحكومة أن تساعدنا على شق الطريق إلى المستقبل، والأخذ بيد كل من تعثر في طريقه، وألا نُكثر عليه اللوم والتكويح، فليس من بشر خُلق مستغنٍ عن خدمة غيره، وإلا لما جعل الله بعضنا لبعض سُخريًّا، إلا حتى نظل مترابطين بالتعاضد والتعاون فيما بيننا، وإن تبسيط الإجراءات، والتسهيل على الناس، سيفك عِقال العمل، وسيُعقل شياطين البيروقراطية والحسد.

وفقَّ الله جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه وأعزه وأبقاه- قائداً مُظفراً مؤزراً لعُمان وشعبها الوفيِّ الكريم، وحقق على يديه النجاح والفلاح والسؤدد والرقيِّ والتقدم، وأبعد عنه مكر الماكرين وحسد الحاسدين وكيد الكايدين، إنه سميع مجيب الدعاء، وغفر الله لباني عُمان الراحل "أعز الرجال وأنقاهم" جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيَّب الله ثراه- وأسكنه جنان الخلد مع النبيين والصديقين، وحَسُن أولئك رفيقاً .. آمين يا ربِّ العالمين.