في المسافة الغامضة بين المعقول واللامعقول

 

د. مجدي العفيفي
alafifi56 @gmail.com

(1) غواية وهداية
أغوته الدنيا في اللحظة التي كاد يقبل فيها على الدين إقبالا عقليا لا نقليا.. راودته عن نفسه، فكان يستجيب إلا قليلا.. تقاذفته الأيام فكان يسبح على شواطئها، تبادلته الليالي فكان ابن الليل، يرتدي الأقنعة فيختفي ولا يكاد يبين.. مضى قطار العمر عشرات المحطات، ويمَّم عمره شطر النصف الآخر، وأعلنت شمس العمر احمرارها فأسدلت خيوطها صفراء.
لاحت أمامه علامة (انتباه)، فتنبه وانتبه.. وإذا الفجر تطل عيونه نذيرا وبشيرا، وما بين الشرارة والإشارة، والبشارة يعيش الآن من العمر مرحلة للتعريض والتعويض والتفويض، والاختصار والانتصار والانتظار.
يعرض قلبه لأشعة السماء، عِوضًا عما أهدره من السنين، ومفوضا أمره إلى صاحب الأمر، مختصرا مسافات، ومنتصرا على الذات، ومنتظرا أشياء وأشياء.
يسأل ويسائل، ويمارس ثقافة الأسئلة، يريد لمصباح روحه أن يشتعل دائما ويتوهج باستمرار، لا يرضى ولا يرتضي بالإجابات الجاهزة والحلول المعلبة، يبحث، يقرأ، يحاور، يجادل، حتى ولو على طريقة لا بد من لمس النار لتتأكد أنها نار، لعله يجد على النار هدى!
يقول لي صاحبي وهو يحاورني، إنه قرأ أطنانا من الأوراق التي تمتلئ بالأذكار والأوراد، لكن قلبه لا يخفق كثيرا لتلك الصيغ المحفوظة والمألوفة، والتي فقدت بريقها لتداولها واستهلاكها في محلها وغير محلها، وأنه اطَّلع على مدارس التصوف ومذاهبه واتجاهاته، لكن روحه لا تحلق في هذه الأجواء؛ فهو يعزف عن التمذهب احتواء وأضواء من التنزيل الحكيم "لكل جعلنا شرعة ومنهاجا"، و"لا تزر وازرة وزر أخرى"، و"كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه".
وبنفس قوة "العزوف عن" الموروث والسائد والمألوف، جاءت قوة العزف على "وتر الروح"، بومضة توهج بها القلب، ساعة أن كشفت له بريق هذه الومضة: إذ جاء في الأثر، إنَّ رجلا بسيطا دخل المسجد، ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتمتم بتسابيح كثيرة ومتلاحقة؛ الأمر الذي جعله يسأل سيدنا من أنه لا يستطيع أن يُردد مثل هذه التسابيح والأذكار، ولا يحفظها ويريد أن يقولها، فسأله الرسول الكريم ماذا يقول، فقال له: أنا لا أستطيع الآن أقول: لا إله الا الله، فما كان من سيدنا الرسول إلا أن قال له قولة جميلة مسكونة بألف معنى ومعنى، ومشحونة بقمة الأداء: "كلنا ندندن حولها يا أخا العرب"!
نعم، كلنا ندندن حول "لا إله إلا الله" وكل له طريقته، وكل له أسلوبه.
تعبير تربوي رائع.. يتجلى بالجمال والجلال "لا إله إلا الله".
كلنا ندندن حولها يا أخا العرب، دندن بها يا رجل.. وارتجل.. وارتحل.. بين ثناياها وحناياها وخلاياها.
واعرف الله وكن كيف شئت!

(2) جلال وجمال
يقولون في سر قوله "اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك علي محمد كما باركت على إبراهيم)، ولم يقل كما صليت على موسى؛ لأن موسى -عليه السلام- كان التجلي له بالجلال فخرَّ موسى صعقا، والخليل إبراهيم -عليه السلام- كان التجلي له بالجمال؛ لأنَّ المحبة والخلة من آثار التجلي بالجمال؛ لهذا أمرهم النبي الكريم بأن يصلوا عليه كما صلى على إبراهيم، ليسألوا له التجلي بالجمال.
وهذا لا يقتضي التسوية فيما بينه وبين الخليل صلوات الله وسلامه عليهما؛ لأنه إنما أمرهم أن يسألوا له التجلي بالوصف الذي تجلى به للخليل عليه السلام، والذي يقتضيه الحديث المشاركة في الوصف، الذي هو التجلي بالجمال، ولا يقتضي التسوية في المجالين، ولا في الرتبتين، فإن الحق سبحانه يتجلى بالجمال لشخصين بحسب مقاميهما، وإن اشتركا في وصف التجلي بالجمال، فيتجلى لكل واحد منها بحسب مقامه عنده ورتبته منه ومكانته، فيتجلَّى للخليل -عليه السلام- بالجمال بحسب مقامه، ويتجلى لسيدنا محمد بالجمال على حسب مقامه.

(3) حنين وأنين
لأنه هو مفاتيح القلوب بيد الله، يفتحها إذا شاء.. كما شاء.. بما يشاء.
قبس: من وصل اتصل.. ومن اتصل انفصل
إنذار: الدخول في تجربة مع الله.. شك!
بشارة: رحم الله الإمام على القائل: "خير الناس من فك كفيه وكف فكيه"!
إشارة: نفي العيب عمن لا يستحق العيب.. عيب!
دمعة: ذات يوم.. مر الشيخ على المقابر، فعلق قائلا: "كل هؤلاء انتقلوا إلى العالم الآخر ولم يكملوا مشروعاتهم التي بدأوها، ولم يستكملوا تحقيق أمانيهم، وقد أفنوا أعمارهم من أجلها".
نعم، يدور الزمان، ويثور المكان، ويجيء بشر، ويرحل بشر، ولا تبقى إلا الذكريات، تُشرق حضارات، وتنطفئ حضارات، ويتحرك التاريخ، وتتمدَّد الجغرافيا، وتبرق الشواهد والمشاهد، وتبوح الآثار والأسرار.. إنها منظومة الإنسان والزمان والمكان، وكل شيء هالك إلا وجهه، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

(4) نفسي الأمَّارة بالشعر
صنعتني على عينك
وألقيتُ.. عليك محبة مني
وألقيتِ... فألفيت التورط فيك
بالتجريد.. والتوحيد.. والتفريد..
هويتك فاصطفيتك
دون كل الناس، باستئناس
ومارست التخلي في تصوفك
فأدمنت التحلي
علني أحظى التجلي
من سنا سمتك
من صدى صوتك
من شذى روحك وريحانك..
مكثت على شفا عمري
بواديك.. أناديك.. أناجيك..
أنا فيك.. ومنك
فأين نورك؟ أين نارك؟ أين أين قناديلك؟
وهل في العين أين؟
وآنست انتظار النار والشجرة
أرى الثمرة
وأشتاق اقتطاف بريقها مرة
فأخصف من وريقات الجنان لديك
لكني أريد الكشف لا السر
أريد الجهر سيدتي
على مرآك تهفو الروح ظمآنة
لضوء شارد عني
يجافيني لأعرفه
وأعرفه يجافيني
أنا الحيران، والتوهان في عينيك فلسفتي
تثير سكوت أسئلتي
تنير القلب مظلمة
تفتت لحظة ثكلى
تفيض تغيض في رحم الهوى علقة
ليكسوها عظام الشوق لحمتها

تعليق عبر الفيس بوك