"كورونا": كيف سيواجه العالم هشاشته؟

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

قامت مرحلة الحداثة في الغرب على مُسلَّمة أنَّ العقل البشري قادر على جلب السعادة للإنسانية من خلال قُدرته على اكتشاف كل ما يُمكنه أن يُعكِّر صفو هذه الحياة بما فيها الأمراض التي كانت تفتك بالإنسانية في كثير من مناطق العالم، ففي القرن الرابع عشر على سبيل المثال عرفت أوروبا وباءً سُّمي "بالموت الأسود"، وهو عبارة عن مرض تشبه أعراضه الإنفلونزا وانتشر يومها إلى نصف سكان الأرض من أوروبا رغم عدم تطور العالم وزيادة ترابطه بشبكة النقل والسفر المُستمر كما هو الحال في القرن الحادي والعشرين، ولكن تزايد وتيرة الثورة الصناعية بدءًا من القرن السابع عشر أدى إلى تفاؤل كبير بأنَّ العلم قادر على هزيمة هذه الأمراض التي تسببها الفيروسات بمُختلف أنواعها، ومضت جهود العلماء تكتشف اللقاحات والأدوية، وتحركت المختبرات في كثير من دول العالم، وشعرت الإنسانية بأنّها في مواجهة مرحلة مُتقدمة جداً تستطيع من خلالها أن تكتشف خريطة واضحة للفيروسات التي تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان، وتقدم لها اللقاحات التي تقضي عليها مما يطيل مدى الحياة ويُقلل نسبة الوفيات الناتجة عنها، ولكن هل تحقق ذلك الحلم؟ وهل تمكن العقل البشري من فهم الخريطة المُعقدة لنشوء الفيروسات وتحولها؟

هذه الأسئلة تعود اليوم مع تنامي انتشار فيروس "كورونا" حاملة قلقًا عالميًا عظيمًا جدًا حول محدودية العقل البشري في فهم تلك الجوانب المُعقدة في الطبيعة.

ففي الوقت الذي كان المحللون السياسيون على مختلف قنوات تلفزيونات العالم، ووسائل الإعلام يحذرون من أننا مُقبلون على انهيار عالمي كبير نتيجة الصدام المحتمل بين إيران والولايات المُتحدة على إثر مقتل قاسم سليماني في العراق، يأتي الانهيار من مكان آخر ولسبب آخر، لا بسبب صواريخ باليستية، أو غيرها من الأسلحة إنما بسبب فيروس لا يزال العالم حائرا من أين جاء، ليبث هذا الهلع العالمي، الذي لا يحدث إلا في حالة الحروب المُدمرة حيث عملت الدول على إجلاء رعاياها، وأوقفت شركات الطيران رحلاتها، وتوقفت شحنات بترول في أماكنها، وأوقفت مصانع عن العمل، وأغلقت مدن على ملايينها، وانتابت البشرية حالة رهاب لا يُمكن وصفها من مجرد ذكر الأسم، وتحول كورونا إلى أكثر الكلمات رعبًا في كل أرجاء العالم، وأعاد بعضاً من تاريخ لم يتوقع أحد عودته؛ حيث كان التحذير الأول الذي انطلق في الولايات المُتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر خوفاً من الآسيويين وعلى وجه الخصوص الصينيين الذين بدأوا يهاجرون في جماعات كبيرة بسبب طعامهم غير الآمن، وعرف ذلك التحذير يومها "بالإنذار الأصفر"، مما كان يومها نزعة عنصرية عُوِّل على الزمن في تلاشيها مع التقدم في معرفة الشعوب لبعضها البعض ولكن يبدو أنَّ هذه النزعة لا تزال قائمة وها هي تعود مرة أخرى مع كورونا حيث أطلقت بعض الصحف الأسترالية عليه "فيروس الصين"، وطالبت أطفال الصين الموجودين بها بالبقاء في منازلهم، وأصدرت فرنسا "إنذارا أصفر"، وعملت على إحياء شبح "الخطر الأصفر" مما قاد إلى تضخيم قصة أجساد شرق آسيا الملوثة والمليئة بالأمراض، التي تُهدد بخنق الغرب، مما جعل يانج تيان (Yang Tian) محرر أخبار الجارديان البريطانية بأستراليا، يُحذر من تنامي هذه النزعة في هذا الوقت في أستراليا في عنوان مقالة له نشرت بجريدة الجارديان البريطانية يوم 4 فبراير تحت عنوان "الشعب الصيني يواجه كورونا مثل أي فرد آخر، لا تصدمونا أكثر".

إنَّ المخاوف لم تتبدد رغم الوعود بالتقدم الطبي وقدرة الأبحاث العلمية على بث الطمأنينة والأمن في الإنسانية التي لا تزال تستقبل موجات ذعر مُتتابعة من فيروسات فتاكة مثل أنفلونزا الطيور، والزيكا، والسارس، وإيبولا، وحالياً كورونا، ولا تزال هذه الفيروسات تتحور وتتطور مع كل مرحلة موقعة الحيرة والقلق في العالم الذي يجد نفسه كما عبَّر الرئيس الصيني في حرب مع عدو مجهول لا يُمكنهم من محاصرته بترسانتهم العسكرية، ولا بغواصاتهم، ولا بجيشهم الجرار، بل بالعكس يتجهون إلى محاصرة مدنهم وسكانهم لكي يمنعونهم من أن ينقلوا العدو إلى بعضهم البعض، ويتنقلون من بيت إلى آخر لفحص النَّاس، ويستخدمون ممرات خاصة لنقل الأغذية والإمدادات الطبية وهو ما لا يحدث إلا في حالة الحروب، ولكن الغريب أنَّ العدو غير ظاهر ليُطلقوا عليه كل ما يملكون من أسلحة فهم مُختفٍ وليتهم يعرفون من أين يأتي بهذه القوة الفتاكة، ألا يمثل هذا مشهدا إنسانيا تراجيديا في القرن الحادي والعشرين لو تنبأ به أحد لن يأخذ على محمل الجد؟ ألا يمثل اختبارًا حقيقيًا لمحدودية العقل البشري في فهم قوانين الطبيعة وأسرارها وإلى قوة الكائنات التي ينظر إليها الإنسان بدونية ويزعم أنَّه يُسيطر عليها؟

تتزايد هذه الأسئلة في القرن الذي يوصف بقرن الذكاء الاصطناعي، وقرن الروبوت، والطابعات ثلاثية الأبعاد، وتقنيات النانو وغيرها من القفزات العملية الكبيرة في التطور التكنولوجي التي جعلت البشرية تتفاءل وتزهو بمُستقبل مُختلف خرافي غير مسبوق، إلا أنَّه رغم كل ذلك تظل هذه الإنسانية عاجزة عن حماية نفسها من الكائنات مُتناهية الصغر مثل هذه الفيروسات التي تضرب بقوة في فترات زمنية متقاربة، بل ويقف عاجزًا كما يعكس حوارا بين شخصيتين عاملتين في مجال اللقاحات الطبية وهما توم فرايدن الرئيس السابق للمركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض والوقاية الذي قال إنَّ العالم سيتحول إلى هواية إن لم تكتشف اللقاحات المناسبة للفيروسات الفتاكة، لكن رئيس وكالة الأبحاث الطبية البريطانية جيريمي فرار يرد عليه بالاعتراف بحالة العجز عن تحقيق ذلك، وأن العالم المعاصر عليه أن يُعايش العجز الذي عايشته الإنسانية في ما مضى حيال أمراض وأوبئة أخرى كانت أقوى في ذلك الوقت من قدرتها.

يبدو أنَّ كورونا وغيره من الفيروسات باتت أقوى من "نيان" الوحش الأسطوري في الثقافة الصينية وهو حيوان خرافي له جسم ثور ورأس أسد، كان يتجه مع نهاية فصل الشتاء إلى الناس ومحاصيلهم ليأكلها بوحشية حين لايجد ما يأكله، ولقد سبب لسنوات رعبًا كبيرًا للصينيين حتى اكتشفوا أنَّه يخاف ثلاثة أشياء اللون الأحمر والنار والضوضاء، وكل ما اقترب موعد قدومه علقوا الفوانيس والرايات الحمر على قراهم، وعملوا الألعاب النارية لردعه، فهل يتمكن الصينيون من تعلم ما يُوقف كورونا كما تعلموا ما يوقف نيان؟ سؤال ستكشف الأيام إجابته، لكنها لن تحسمها نهائيًا.