حين تتحوّل العبارات إلى مبادئ عامة


مسعود الحمداني
Samawat2004@live.com

رحم الله السلطان قابوس بن سعيد وطيّب ثراه، كانت كلماته مؤثرة، وعميقة، ودقيقة، ولم تكن عباراته شعارات زائفة، أو ثرثرة زائدة، أو(عارضات) للتسويق الداخلي والخارجي، فكل عبارة خرجت من هذا الرجل أصبحت مبدأ عاما يضبط السياسة الداخلية والخارجية للسلطنة، وتسير عليها الدولة، وتثبتها الأحداث، وتصدقها الوقائع.
فعبارة مثل (نحن شعب يعمل في صمت..) صارت تطبيقا عمليا لكل حركة بناء وتنمية في السلطنة، فلم يشغل- رحمه الله- نفسه ولا شعبه بالضوضاء الإعلامية، ولا الضجيج المنبعث من فم المطبّلين، أو المثبطين على حد سواء، بل سارت التنمية العمانية وفق خطط واضحة وممنهجة ومدروسة، ولم يكن يمر يوم دون منجز جديد، ولعل سنوات السبعينيات وضغوطاتها كانت أكثر وضوحا في هذا الجانب، فحين تخرج دولة من عصر مظلم، معتم فإنّ عملية التعوّد على الضوء تكون أشد ضراوة، والتكيف مع الشمس ليس يسيرا، ولكن السلطان الراحل عمل ليل نهار بعيدا عن كاميرات الإعلام، وزار الولايات البعيدة قبل القريبة وسط تضاريس جغرافية قاسية، وأشرف على سير الخطط الموضوعة بنفسه، ولم يكن قط حبيس القصر يشرف عليها من مكتبه، ويراها من خلال تقارير وزرائه، بل كان قائدا ميدانيا بمعنى الكلمة، وهذا ما وضح في جولاته السنوية في الولايات، وزياراته للمشاريع والمدارس، بل وافتتاح كثير من تلك المشروعات تحت رعايته، وهذا ما أكسب التنمية العمانية زخما كبيرا، وأعطاها أبعادا إنسانية استثنائية.
وكانت يد جلالته- طيّب الله ثراه- الكريمة ممتدة دون منٍّ أو أذى في الداخل والخارج للمحتاجين، ولم تكن الكاميرات والتطبيل الإعلامي حاضرا لكل حدث يوثّق (الأحداث) بغرض للدعاية العالمية، بل إن كثيرين تفاجأوا بعد وفاته بما تمّ الكشف عنه من أعمال خيرية كان يقوم بها دون علم الآخرين، لأنّ العمل بصمت، والصدقة دون منٍّ هو فعل الكرام الذين يبتغون فضلا من الله دون نفاق أو مردود، ولذلك يظل هذا الرجل (الصامت) عظيما في حياته، وبعد مماته.
كما أنّ عبارة مثل (نحن لا نتدخل في شؤون الدول الأخرى..) ما كانت مجرد شعار يُرفع في الإعلام، ويُمارس عكسه من تحت الطاولة، بل كان نهجا سارت عليه السياسة الخارجية العمانية بكل انضباط، ودون الكيل بمكيالين، فما طبقته السلطنة في مصر مع مقاطعيها، طبقته في اليمن، وطبقته في سوريا، وفي كل أزمة عربية وعالمية، فلم تكن العاطفة السياسية هي التي تحكم علاقات السلطنة بالأزمات، بل هو الثبات على المبدأ وهذا ما لا تستطيع فعله معظم الدول، فكانت عمان بذلك صديقة جميع الأطراف المتناحرة أو المتخاصمة في العالم، فجمعت المتناقضين، وحازت على تقدير الجميع.
ورغم كل الاستفزازات التي تعرضت لها السلطنة بفعل هذه السياسة الحيادية، إلا أنها ظلّت قابضة عليها كالقابض على جمرة من نار في زمن تخلّى عن الحياد، إلا أن هذا المبدأ السياسي أثبت أنّه الأنسب لإدارة شؤون البلاد داخليا، وخارجيا، وبفضله جنّب السلطان قابوس- رحمه الله- بلاده وشعبه فتن التقلّبات في المواقف التي فُرضت ـ أو سارت عليها ـ دول أخرى، وبذلك تطابقت أقوال السلطان الراحل مع أفعاله، فاحترمه (أعداؤه) قبل أصدقائه.
إنّ تلك العبارات وغيرها الكثير يجب أن تدرّس في المناهج الدراسية والجامعات، لأنّها ليست مجرد عبارات جوفاء، أو كلمات عابرة، بل هي دروس عملية في الإدارة العامة، وإدارة الأزمات، والثبات على الموقف والمبدأ، وهو ما لا يفقهه الكثيرون.