الأيام لا تتباطأ

 

 

تمضي السفينة العمانية تشق عباب البحار، كما كان الأجداد يفعلون، ويسطّرون قصصهم كما كان الذين هم من قبلهم يسطّرون.

 

 

غسان الشهابي

 

عندما اختار الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيّب الله ثراه- إلى جواره، كان هو اليوم الذي عليّ أن أستعد لكتابة مقالي الأسبوعي في جريدة "الرؤية"، فآثرت أن أترك مساحتي للعمانيين الذين هم أولى الناس في هذا الوقت لكي يرثوا زعيماً قيّضه الله لهذا البلد ليتقدّم بها صفوف الكثير من الدول التي عاشت الأوضاع نفسها تقريباً، ويبدل حالها بحال لم يكن أكثر المتفائلين والمحلّقين في الأحلام ليتصوّروه.

أما وقد قال الإمام علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه): "التعزية بعد ثلاث تجديدٌ للمصيبة..." فأقول: صدقت يا أبا الحسن، ولكنها في الأشخاص الاعتياديين، أمّا القادة الكبار فالتعزية في حقّهم ممتدة، والوقت لا يستوعبها جميعاً، فيطول الكلام في الراحل الكبير، في مناقبه ومآثره، وجميل صفاته الذاتية والقيادية والوطنية، وهذا الدأب الذي ما كان ليهدأ، وما رواه لنا الأصدقاء العمانيون من الراحل الكبير من همّة لا تفتر، ومتابعة، وجولات ميدانية تروى فيها القصص والحكايات التي يطيب للقاصي والداني الإنصات لها، لأنها نموذج في الإدارة التي تترفق بالمجتمع المتباهي بانتماءاته وأصوله، وتاريخ تنشدّ إليه جذور التاريخ، مع الرؤية الثاقبة لجلالته رحمه الله، في التحليق ببلاده وأهله إلى المستقبل، ومسابقة الزمن لتعويض ما فاتهم في غابر السنوات.

إلا أنّ المهمة في بناء الأوطان أبداً لا تكتمل ولا تنتهي ولا تتوقف عند حد، فما قطعته عمان على مدى الخمسين عاماً الفائتة تحت قيادة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد، أمر مثير للإعجاب بكل المقاييس، إلا أنّ الدرب لا يزال طويلاً غير متناهٍ، يتصدّى له صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور، لمواجهة تحديات هذه المنطقة التي تتلاطم أمواجها السياسية والعسكرية بينما مياهها راكدة الأمواج، فالأساطيل الخليجية والأجنبية تمخر هذا المسطح وكأنّه كتب عليه ألا يمرّ عام والخليج ليس فيه توتّر. وأمامه التحدّي الاقتصادي الكبير أيضاً والذي لا يقل خطورة عن الحروب وأبواقها، ولا التهديدات الأمنية وطبولها، تحديات على المستوى الإقليمي وقضاياه الملحّة، وأخرى من ناحية الانتماء إلى الغد تكنولوجيا بأن تكون السلطنة في قلب تحوّلات الثورة الصناعية الرابعة التي لن تبقي شيئاً من الماضي ولن تذر، بل سيصبح مجرد الالتفات إلى الأمس مدعاة للتعثر للسرعات الفائقة التي ستتحرك بها المجتمعات... ومن يتعثّر وسط قطيع فزع من غول التخلّف؟!

حمل جلالة السلطان ثقيل، ولكن شعب عمان أصيل، قادر- بعون الله- أن يكفكف دموعه التي يسكبها على قائده الراحل، ليرفع صروح البناء يداً بيد مع قائده الماثل، فتمضي السفينة العمانية تشق عباب البحار، كما كان الأجداد يفعلون، ويسطّرون قصصهم كما كان الذين هم من قبلهم يسطّرون.