التمكين الرقمي

عبيدلي العبيدلي

يتردَّد تعبير "التمكين الرقمي" في الكثير من خطط التنمية، وبرامج التطوير. بل أصبحنا نجده متداولا في العديد من خطب المسؤولين عند تناولهم مثل هذه القضايا. ولا بد من التنويه إلى ما يشوب ذلك التعبير أيضا من لبس في أذهان من يتلقون تلك الرسالة؛ لذلك نجدهم يفهمونها بمثابة دعوة تحثهم على المبادرة لاتخاذ واحدة أو مجموعة من الخطوات التالية:

- الإسراع في إغراق المؤسسات التي يعملون بها بمنظومة من الحواسيب الضخمة ذات المواصفات العالية؛ سواء من حيث سرعة المعالجة، أو ضخامة القدرة التخزينية، أو أحجام شاشات العرض.

- البدء في تشييد بنية أساسية هائلة من تشبيكات، وروابط توصيل، يتم الاستعانة في بنائها بأفضل شبكات الاتصالات وأكثرها سرعة.

- خطوط اتصال فائقة السرعة، حتى بتنا نشاهد إصرار البعض على ضرورة الاشتراك في الخدمات التي تتمتع بمواصفات الجيل الخامس (5G).

- توظيف مجموعة مختارة، من خريجي أفضل المعاهد، وأرقى الجامعات المتخصصة في عالم الحاسوب، أو تقنية المعلومات، بما فيها تلك التي توفر مناهج تغطي مواد "الذكاء الاصطناعي".

- الاستعانة بواحدة أو أكثر من شركات الاستشارة المشهورة لوضع خطة تضمن تنفيذ برامج التحول الرقمي، في أسرع وقت ممكن، وعلى النحو الأفضل.

جميع هذه الخطوات، وربما تكون هناك أخرى غيرها أيضا، في غاية الأهمية، بل وتحظى بالأولوية، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع وحدها أن تضمن ذلك التحول المطلوب الوصول إليه عندما يجري الحديث عن التمكين أو التحول الرقمي. وقبل الخوض في توضيح السبب في عدم كفاية كل ذلك ينبغي الاتفاق على تحديد تعريف واضح لمفهوم التمكين، أو كما يصفه البعض بالتحول الرقمي للمجتمع الذي قرر الأخذ بأي منهما.

فالمقصود من أي من التعبيرين هو "تمكين أكبر عدد من المواطنين، وأعلى نسبة ممكنة في صفوفهم إعداداً وتدريباً مستمراً؛ من أجل إكسابهم القدرة على توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال في مختلف جوانب الحياة التي يمارسونها، بما في ذلك الأنشطة الشخصية التي يقومون بها؛ من أجل بناء الكفاءات الوطنية القادرة على إنتاج المحتوى الرقمي، وغرس ذهنية الإبداع والابتكار والريادة في أوسع قطاع ممكن من مكونات المجتمع؛ من أجل التأسيس لعمليات التحول الرقمي المنشود".

وهناك من يذهب إلى مفهوم أوسع من ذلك فيرى أن "التحول الرقمي هو الاستثمار في الفكر وتغيير السلوك لإحداث تحول جذري في طريقة العمل، عن طريق الاستفادة من التطور التقني الكبير الحاصل لخدمة المستفيدين بشكل أسرع وأفضل. ويوفر التحول الرقمي إمكانات ضخمة لبناء مجتمعات فعالة، تنافسية ومستدامة، عبر تحقيق تغيير جذري في خدمات مختلف الأطراف من مستهلكين وموظفين ومستفيدين، مع تحسين تجاربهم وإنتاجيتهم عبر سلسلة من العمليات المتناسبة، مترافقة مع إعادة صياغة الإجراءات اللازمة للتفعيل والتنفيذ". والمقصود هنا تحقيق الاستفادة القصوى من كل ما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة من كل ما ولدته ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات من نقلات نوعية في المجتمعات التي هبت عليها. على أن يترافق ذلك مع "تمكين ثقافة الإبداع في بيئة العمل، ويشمل تغيير المكونات الأساسية للعمل، ابتداء من البنية التحتية، ونماذج التشغيل، وانتهاءً بتسويق الخدمات والمنتجات".

ولتحقيق ذلك، ينبغي البدء في عملية التحول، أو التمكين الرقمي، من زاوية مختلفة عن تلك التي ترسخت في أذهان من أشرنا لهم أعلاه عندما أقدموا على واحدة أو مجموعة من تلك الخطوات التي سردناها. ويتم ذلك من خلال الإجراءات التي ينبغي أن تكون مرافقة لتلك الخطوات، وتنفذ بالتوازي معها، على النحو التالي:

وضع خطة إستراتيجية متكاملة قادرة على بناء النظام البيئي (Ecosystem) الذي يحتاجه - ذلك التحول، آخذة بعين الاعتبار توفير كل عناصر ذلك النظام البيئي، مع القدرة على صهرها في بوتقة ذلك النظام كي تعمل في تناغم يحقق التكامل المطلوب، ويحول دون أي نشوز لأي من تلك العوامل، من شأنه أن يمارس ذلك الدور السلبي، ربما غير المقصود، في عملية التمكين المنشودة. فخروج أي من تلك العوامل عن خارطة الطريق التي وضعتها تلك الخطة الإستراتيجية من شأنه شل عملها، أو تأجيل الوصول إلى أهدافها.

- نشر الوعي بأهمية تلك الخطة، وزرع القناعة بضرورة الوصول إلى أهدافها، في أوسع قطاع ممكن من المواطنين، بمن فيهم أولئك الذين، قد يبدو للبعض أن قطار التمكين قد فاتهم. فنشر مثل هذا الوعي يحقق التكامل المنشود بين عناصر ذلك النظام البيئي المرسوم، من خلال تحقيق التناغم المنشود بين المرسل، وهو واضع الخطة، والمشبع بمكوناتها، والمتلقي، وهو الطرف المستهدف من عملية التحول الرقمي المطلوب. ولا بد من التشديد هنا على ضرورة الوصول إلى تحديد العامل الزمني الصحيح الذي ينظم عمليات الإرسال والتلقي لضمان بلوغ صيغة التناغم المجدية.

- التشبُّث بسياسة قطع المراحل، وليس حرقها. فعملية التمكين الرقمي، لا يمكن أن تتم في دفعة واحدة تشوه معالمها، وتحرفها عن المسارات الصحيحة التي ينبغي أن يسلكها المنخرطون فيها، مرسلين كانوا أم متلقين. والمرحلية لا تعني مطلقا التلكؤ في التنفيذ، أو التقاعس في الاستجابة، بقدر ما تفرض التدرج السلس محسوب العواقب في التنفيذ من الأطراف كافة، التي تقع على عاتقها مسؤولية المراجعة المستمرة لمراحل تنفيذ إستراتيجية التمكين أو التحول على حد سواء.

- وضع الضوابط التي تضمن سلامة المدخلات، وصحة المخرجات عن طريق وضع مؤشرات قادرة على قياس التمكين الرقمي. وهذا الأمر يتطلب توفر بيئة قادرة على "إيجاد حوكمة واضحة ودقيقة تتناسب مع جميع الجهات وتخدم أهدافهم وتحقق التوازن في عملية تنفيذ مبادرات التحول الرقمي لتعكس نتائج التقدم في التحول الرقمي بشكل دقيق وواضح مع تحديد مسؤولية ودور كل جهة ونسبة مشاركتها في التحول الرقمي الوطني".

وفي نهاية الأمر، تبقى إستراتيجية التمكين الرقمي، شأنها شأن عمليات التمكين الأخرى، عملية مستمرة لا تقف حدودها عند قرارها، ولا تحصر أهدافها نفسها في دائرة ضيقة، أو قترة زمنية قصيرة؛ فهي عملية مستمرة لدى من يريد لها أن تحقق التمكين على الوجه الأفضل، بما يضمن سلامته وديمومته.