في قرطاجنة.. حكاية قوارب كاسترو

 

عبدالنبي الشعلة
في العام 1995 وبترشيح من رئيس الوزراء صاحب السُّمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة حفظه الله ورعاه، شرفني أمير دولة البحرين آنذاك المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السُّمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، بالإنابة عنه لترؤس الوفد المشارك في اجتماعات الدورة الحادية عشرة لمؤتمر القمة لدول عدم الانحياز الذي عقد في مدينة كرتخينا أو قرطاجنة بكولومبيا في الفترة من 18 إلى 20 أكتوبر من ذلك العام.
وفي الطريق توقفنا في نيويورك حيث تحتفل الأمم المتحدة في ذلك العام بمرور 50 عامًا على تأسيسها، وكانت المدينة مكتظة بملوك ورؤساء الدول والحكومات أو ممثليهم والوفود المرافقة الذين تقاطروا وملأوا الفنادق للمشاركة في تلك الدورة والاحتفال بالمناسبة، وقد مثل أمير البلاد في تلك الاجتماعات والاحتفالات سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس الوزراء الذي كان وقتها وزيرًا للخارجية.
وكما هو معروف فإنَّ حركة عدم الانحياز تأسست في العام 1961، وقد انطلقت بادرة التأسيس من زعيم آسيوي هو رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، وزعيم عربي أفريقي هو جمال عبدالناصر وزعيم أوروبي هو جوزيف بروس تيتو رئيس يوغسلافيا، وكان هدفها الابتعاد عن سياسات وميادين الحرب الباردة التي تصاعدت بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والوقوف على الحياد في الصراع الدائر بين المعسكرين.
في مقر انعقاد المؤتمر وفي ردهات الفنادق القريبة التي كانت مخصصة لإقامة الوفود كان هناك حضور كثيف ومميز لقادة ومسؤولي دول عدم الانحياز، إلا أنَّ شخصيتين حظيتا بالاهتمام الأكبر والأوفر واختطفتا الأضواء؛ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس الكوبي فيدل كاسترو.
كاسترو كان أبرز وألمع الحاضرين دون منازع، وكان له حضور لافت مُميز بقامته الطويلة وكثافة شعر لحيته والسيجار الكوبي المشهور الذي بالكاد كان يفارق فمه.
والمعروف كذلك أنَّ المستعمرين الأسبان الذين سيطروا على معظم دول أمريكا الجنوبية لأكثر من ثلاثة قرون جلبوا معهم إلى تلك الدول الدين المسيحي الكاثوليكي ولغتهم الإسبانية وثقافتهم وتقاليدهم، ومنها "القيلولة" التي يسمونها "السياستا" وهي فترة للراحة عند الظهيرة بين ساعات العمل، ويقال إن الأسبان بدورهم كانوا قد اكتسبوا هذه العادة من العرب عندما حكموا أسبانيا لقرابة 700 سنة.
كما نقل المستعمرون الأسبان أكثر من ثلاثة ملايين أسباني لهذه المستعمرات؛ ومنهم والد فيدل الذي وصل إلى أسبانيا كعامل في الزراعة ثم أصبح يملك مزرعة كبيرة لقصب السكر، وأنجب أول أبنائه فيدل من علاقة غير شرعية بخادمته التي تزوجها فيما بعد وأنجب منها الأخوين الآخرين لفيدل أحدهما راؤول كاسترو الرئيس الحالي لكوبا.
في فترة القيلولة وعندما توجه زملائي في الوفد للراحة استوقفني في إحدى الردهات بمقر انعقاد المؤتمر مشهد كاسترو جالسًا مع عدد من المسؤولين الكوبيين مُحاطًا بعدد قليل من المشاركين في المؤتمر ورجال الإعلام فيما يشبه اللقاء أو المؤتمر الصحافي، كان الجميع صامتًا يستمع بإصغاء وتركيز لما يقوله الرئيس، فقد كان كاسترو متحدثًا لبقًا وخطيبًا قادرًا مفوهًا عرف بخطبه التي كان بعضها يمتد لساعات، مع تمكن شخصيته الجذابة وأسلوبه المميز في الخطابة من السيطرة على الحضور مهما بلغ عددهم واختطاف اهتمامهم وانتباههم.
وعندما وجدت مجالًا انضممت إلى المجموعة وأخذت أدون ما يقوله، وكان كاسترو مسترسلًا في الحديث باللغة الأسبانية مع وجود مترجم فوري يترجم للغة الإنجليزية.
كان كاسترو يتحدث عن مقاومة بلاده وصمودها في وجه الحصار والاعتداءات الأمريكية على بلاده، وأشار إلى أنه في مثل هذه الظروف لا شك في وجود خونة وانهزاميين وضعفاء الإيمان في المجتمع، ولكن كيف تتخلص منهم؟
قال كاسترو إن أميركا لم تكتف بإحكام الحصار حولنا ومحاولة غزو أراضينا، بل إنها ظلت تعمل على تدمير اقتصادنا وزعزعة استقرارنا، وكانت المخابرات الأمريكية تجند العملاء والجواسيس ونجحت في استقطاب مجموعة من الكوبيين إلى الولايات المتحدة وشكلت منهم ما سمي بـ"جيش كوبا الحر" بنية إعداده وإرساله إلى كوبا للإطاحة بالحكم الشيوعي فيها، ما اضطر كوبا في العام 1970 إلى إصدار قانون يمنع الكوبيين من السفر والهجرة إلى الولايات المتحدة خوفًا من أن تجندهم المخابرات الأمريكية.
في مقابل ذلك وبعد عشر سنوات وفي العام 1980، وبهدف زعزعة وإحراج الحكومة الكوبية أصدر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر تصريحًا موجهًا لجميع الكوبيين أعلن فيه استعداد الولايات المُتحدة لاستقبال واستضافة أي عدد من الكوبيين الذين يرغبون في الإقامة في أمريكا والذين سيحصلون على مرتبات مجزية وسكن مجاني.
قال كاسترو إنَّ كارتر كان يهدف بكل وضوح إلى استقطاب عناصر كوبية جديدة لضمها إلى المعارضين الكوبيين المتواجدين في الولايات المتحدة، وظن أنَّنا سنصاب بالهلع والذعر والخوف.
وأثناء أحاديثه وخطبه كان كاسترو يحرص على استعمال كل وسائل التعبير لتوصيل أفكاره بما في ذلك تقاسيم وجهه وحاجبي عينيه الكثيفين وحركات يديه وغيرها من وسائل شد الانتباه، لإقناع من يخاطبهم بما يقول.
أضاف كاسترو أنه بعد صدور إعلان كارتر سارع بعقد اجتماع طارئ لحكومته تمَّ الاتفاق فيه على تجهيز أكثر من 600 قارب بين كبير وصغير في ميناء هافانا في أسرع وقت ممكن، "وأعلنت للكوبيين أنَّ القوارب جاهزة فمن يرغب في الذهاب لأمريكا فليذهب"، فاحتشد أكثر من 125 ألف كوبي أبحرت بهم القوارب متجهة إلى ميامي بولاية فلوريدا.
ضحك كاسترو وقال: "تفاجأ الأمريكيون واندهش كارتر عندما شاهدوا هذا العدد الكبير من القوارب تشق عباب البحر مُحملة بالآلاف من المهاجرين متجهة إلى ميامي، فبادروا بإرسال سفنهم الحربية لاعتراض القوارب ومنعها من الاقتراب من ميامي.
رفضت أمريكا استقبالهم وحاصرتهم في البحر لأسابيع، وشاهد العالم بأسره هؤلاء البشر المُغرر بهم، مات منهم للأسف الشديد العشرات في عرض البحر من كبار السن والمرضى والنساء والأطفال، ولم تستطع أمريكا مقاومة الضغوط العالمية واضطرت إلى وضعهم في ملاجئ في جزيرة جوانتانامو.
قال كاسترو: "إن هذه الحادثة تركت أثرًا طيبًا علينا في كوبا، فبعدها توقف أو انخفض كثيرًا عدد الكوبيين الراغبين في الهجرة إلى أمريكا، وتخلص مجتمعنا من "الديدان "worms، كما قال بالحرف الواحد، "وطورنا التعليم والخدمات الطبية وانتعش الاقتصاد، وتعلم الكوبيون كما تعلم العالم كله عدم الثقة في الأمريكان أو قبول دعوتهم للضيافة، كما أن الأمريكان تعلموا ألا يوجهوا دعوات مماثلة، وخسر كارتر في انتخابات الإعادة للرئاسة أمام الرئيس الجمهوري رونالد ريجان الذي انتقد تصريح كارتر قائلًا: لو بقي هؤلاء المهاجرون في كوبا لسقط كاسترو".
ثم قال: "كلاهما لا يدرك الحقيقة، كانا مخطئين، والأمريكان بوجه عام لا يؤمنون بحرية الشعوب ولا بمبدأ الندية والمساواة بين الأمم، يريدون أن يكونوا هم الأقوى، وهم دائمًا في المقدمة وهم المسيطرون الذين يتحكمون في مصائر الشعوب ومستقبلها"، وأضاف: "عندما زرت الولايات المتحدة بعد نجاح الثورة في العام 1959 عارضًا الصداقة ومبدأ حسن الجوار، طلبوا مني الإبقاء على الهيمنة والاستغلال الأمريكي لاقتصادنا، وأن أطبق نسخة من نظامهم السياسي في بلادي والذي يسمونه النظام الديمقراطي، فرفضت ذلك وأجبت بكل صراحة ووضوح بأن الشعب الكوبي لا يُريد الديمقراطية التي تفرز عادة قادة فاسدين".
واستدار ليعود إلى البداية بالحديث عن هروب ديكتاتور كوبا السابق الرئيس باتيستا الذي احتفل ببداية العام الجديد في هافانا في العام 1959، ثم توجه للمطار هاربًا إلى الولايات المتحدة، مصطحبًا معه 180 شخصًا من أتباعه وأعوانه و100 مليون دولار أمريكي نقدًا، عندها لم أستطع لضيق الوقت الاستمرار في الجلوس ومتابعة حديثه الممتع الشيق، وغادرت المكان.

 

تعليق عبر الفيس بوك