رحل.. وتركها للذاكرة!

 

 

◄ قررت بنهاية الرحلة الاكتفاء بالمسافات الماضية وترك ما مضى للذاكرة

 

يوسف عوض العازمي

"العلم بغير إيمان ضَرْب من النقص المعيب، أما الإيمان بغير علم فمهزلة لا تطاق"  (ديستوفسكي)

الإنسان في حياته قد يخوض تجارب عديدة، بعضها يترك أثرا واضحا في حياته وشخصيته، ولعل بعضا من التجارب هي من يصقل الشخصية، ويهذب مداركها، ويسدد خطاها، وهناك رحلات يقضي الإنسان الساعي مسافات من أجل إتمامها، وهي رحلات بحسب الهدف المرجو أو المطلوب من الهدف منها.

يُحدثني أحد الأصدقاء عن إحدى رحلاته المتعبة، وسأذكرها على لسانه، وسيكون هذا المقال عنه وعن رحلته، وبلسانه؛ إذ يقول: في حياتي خضت رحلات عديدة -كأي إنسان- وجدت قيمة في بعضها، وبعضها لم أجد المرجو وأظنها قابلة حتى للنسيان؛ لأنها لم تترك أثرا، ولا بصمة تبقيها.

إحدى الرحلات وهي الأخيرة استمرت مسافاتها أربع سنوات ونيف، فيما مضى كان مجرد التفكير بخوضها ضربًا من الجنون، وكلمات من خيال، وظنونًا مضحكة، وأماني أقرب للترهات!

أتذكَّر أنَّني كنت أتمناها، لكن فكر التفكير استبعد حتى التفكير بهذه الرحلة، نظرا لعوائق حاضرة، وعراقيل متوقعة في المستقبل، كانت محض خيال، لكنه الخيال الذي تحول بقدرة العلي القدير إلى واقع، والمستبعد أصبح أقرب، في رحلة ليست كأي رحلة، ومسافات لم تكن خطوطها سريعة، ولا ممهدة؛ إذ كانت تضم عالما من العراقيل، وعوائق يكاد كل عائق يصرخ بوجهي لإيقاف الاستمرار، عوائق داخل الرحلة وعوائق خارجها!

من أولى الخطوات كان الأمر أقرب للكوميديا المختلطة بالتراجيديا، واجهت الاستهزاء، والإحباط باستحالة استكمالها، كان اليأس في كثير من اللحظات يغريني لمرافقته، خاصة في النصف الأول من عام الرحلة الثاني، لكن قدر الله وتقهقر اليأس، ووجدت الأمل أمامي يدعوني لاستكمالها!

كانتْ مراحل التعلم فارهة، وكانت الفائدة العقلية رائدة، وكانت مرتكزات التطور قائمة، وكانت المواقف الإنسانية واعدة باستكمال المسافة، وكنت دائما أثناء الرحلة أضع هدفا واحدا أمامي هو الأهم، وهو: مثل ما بدأت بوجه أبيض، أنهيها بوجه أبيض، وأظنني وصلت للغاية المرجوة والهدف المنشود، على الأقل بيني وبين نفسي.

خلال الرحلة، التقيت بنماذج بشرية عديدة، خريطة إنسانية كاملة درست وجوهها، ولعل علاقتي مع الطب النفسي أفادتني في ضبط النفس بمواجهة مواقف لم تكن تليق بخاصية الرحلة، وواجهت من وضع العصي في الدواليب، ومن تصور بأن الموت والحياة بيده -والعياذ بالله- وتعاملت بضبط نفس مع من يعتقد أنه مقر الأرزاق، ورأيت السادية في العلاقات البينية، وهي أمور كُنت أتجاوزها بانضباط ومسؤولية واضعا أمامي هدفا توجب إنهاؤه بأكمل وجه، أيا كانت الظروف، والحمد لله تمت وتم التجاوز بلا أية خسائر في المبدأ، فقد تغلبت الموضوعية على نقيضها!

كذلك واجهت واجهات مشرفة، ووجوه متألقة، وقامات شاهقة، كنت أتعلم من كل موقف، وكنت أرتكب أخطاء كثيرة، لكني أمام تلك الواجهات والوجوه والقامات وجدت الاحتضان والدعم والتحفيز، وهو المكسب الحقيقي، والذكرى الرائعة، والأمل المتوقد للحياة. ولهم مني كل تقدير واحترام، ولولاهم بعد الله لما استكملت مسافات الرحلة على أكمل وجه. وبالشكل المطلوب. وقد قرَّرت بنهاية الرحلة، الاكتفاء بالمسافات الماضية، وترك ما مضى للذاكرة.

انتهى كلام صديقي، وأزيد عليه بأن التعلم غاية نبيلة، وفي العلاقات مع الناس من الواجب تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وفي التعليم لا يرافق الرفق إلا الخير، الشدة ليست هدفا إنما وسيلة مؤقتة لتحقيق وضع ما، أما استمرارها بكل ظرف هو تهور، كذلك الارتخاء في العلاقات يُضعف الهدف، وتنحسر مآلاته ويفقد الغاية المرجوة؛ لذا فالواقعية والاتزان هما الأفضل والأسلم.