فالقُ الإصباح فتحًا وحياة

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

هذا الفلق الذي يأتي بيانه عقب فلق (الحب والنوى) ودورة الحياة التي يخرج فيها (الحي من الميت والميت من الحي)، ليوحد ربه (رب الفلق)، ويغمر نور إصباحه أطراف الأرض مؤذنا بشق يوم جديد، ينبت من  حياة جديدة وخلق جديد، ليكون شاهدا على الخلق؛ وليكذب هؤلاء المسحورون المدعون تكرار الأيام، وتشابه الحوادث، حين جعلت على عيونهم هذه الغشاوة، وسدت من مسام نفوسهم مسارب النور:

وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل.

هذا الصبح المنفلق ينشر ضياءه على البشر والشجر والحجر، وعلى الأرض وفي الأفق، يشق ظلام اللي ، تتسلل خيوطه من خلاله حتى تسلخ هذا الساكن الصامت، وتزيل آثاره عن وجه الكون بعد أن بات يُرمِّم النفوس المكلومة، وتعمل يده عمل الطبيب الذي بات يضمد الجراح، ويطيب النفوس، فنخرج إلى الحياة بوجه غير الذي فارقناها به لأجل معلوم، ولنلقى هذا الصباح بروح غضّة كبرد الندى حين تلاطف قطراته أوراق الأزهار والأشجار، وليجعل فلق الصبح لفلق الحياة والنفوس روحا مخلقة جديدة.

يقول الفخر الرازي:" ثُمَّ يَحْصُلُ الصُّبْحُ الْمُسْتَطِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصُّبْحَ الْمُسْتَطِيلَ لَيْسَ مِنْ تَأْثِيرِ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَلَا مِنْ جِنْسِ نُورِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى ابْتِدَاءً تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَنْوَارَ لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ إِلَّا بِتَخْلِيقِهِ، وَأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا ثَبَاتَ لَهَا إِلَّا بِتَقْدِيرِهِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ".

وليصنع هذا الفلق النوراني الوجداني في ضواحي النفوس وقواحلها، ما يصنعه هذا الفلق الصباحي في رحاب الأرض، وليشق من بواطنها هذه الروح المتولدة حديثا، كما تشق الحبة وجه الأرض وتلج الحياة، وكما تبرأ النسمة (الروح) من رحم الحياة لتضيف إلى رصيدها وامتدادها حياة أخرى.

هذا النور الذي يُقذف بين طيات النفوس فيفيض عليها من نشره، ويغمرها بهذا الفتح الروحي كي تستقبل الحياة كل يوم كما لم تستقبلها من قبل، وينبت في هذا الحرث كل يوم نفسا جديدة مؤهلة لهذا القادم من رواء الغيب، يعانقها وتعانقه، ويضيف إلى عطائها كما يأخذ من رصيدها، وتستمد هي منه حياة وأملا جديدين، وتستبشر به، وتعلي به من رصيد الأمل بداخلها ما يدفع بها نحو العطاء ومغالبة الحياة وإعمار الكون، وتحقيق مراد الاستخلاف، وملاحقة هذا الركب الذي يرضخ ليد القدرة الحاكمة لا يشذ عن ما خطته مارد أو شاطط، ولا يخرج عن ناموسها طائع أو كاره.

يفيض هذا القادم من نشر نوره على القلوب كما يفيض على الحياة ، فيجعل لها حياة إلى الحياة (نور على نور)، وليكن هذا النور الأول هو نور الصباح، أما الثاني فهو نور الهداية التي تستقبل به النفوس الراضية المذعنة المخبتة هذا الفلق كما ينبغي لها أن تستقبله، فيكون حظها من نوره العلوي على القلب كحظها من النور الحسي، وهذا الذي ضرب الله به المثل للنور حتى قال "نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء".

وأما النفوس المحجوبة بحجب الإعراض والأعراض، فهي التي لا ترى من الحياة إلا هذا الوجه الكالح المتكرر، ما يزيدها إلا عنتًا على عنت، وضنكا إلى ضنك؛ لتقف من الحياة عند هذا النور الحسي الذي تكاد تنكره:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد *** وينكر الفم طعم الماء من سقم

وربما تنكر الحياة بذاتها؛ وقد حرمت من عطاءاتها هذه البصيرة، وعطلت معها آلة البصر، فلا يعمل معها الحس، ولا تتسامى فيها الروح لترى أيا من النورين، وقد يقود أحدهما إلى الآخر، ويهدي الأول للآخر، أو إن شئت فقل الآخر  للأول حين تكون اللقطة النورانية من الأول من قذف يلقى في الروع، وينفث في الروح.

هذا الفلق لا يهدي إليه إلا رب الفلق، ولا يهدي به إلا من شاء من خلقه، ومن نظر بعين الحق، ونازع جحود النفس كان من أهل الفيض والفلق والإصباح؛ ولما كان ذلك حق لنا أن نستعيذ بهذا الخالق الذي أنبت من كل فلق خلقا، خضعوا جميعا لقهره، وانضووا تحت سلطان عرشه؛ وهو الذي يعيذ ويستعاذ، وهو الذي نشر الغاسق فحجب وجه السماء وأظلم الكون، وأسكن الليل، ثم شاء أن يجعل بعده الإصباح فلقا وفتحا وحياة!!

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك