قتيل سياسي

 

محمد علي العوض

 

 

 

تزخر كتب الأدب القديم بعدد وافر من حكايات الشعراء والمبدعين الذين لقوا حتفهم في بلاط الملوك؛ إمّا بسبب آرائهم السياسية أو صلف الحكام وتطيّرهم، كما في قصة النعمان بن المنذر مع عبيد بن الأبرص وحنظلة الطائي. فقد كان للنعمان يومان، يومَ بُؤسٍ من صادفه فيه قتله، ويومَ نعيمٍ من لَقِيَه فيه أحسن إليه..

وإن كان قتل الشاعر ما هو إلا غياب للجسد، فأبياته ستظل خالدة، فالموت لم يقف حائلا بيننا وأبيات عبيد بن الأبرص الحكيمة التي منها:

سَاعِد بِأَرضٍ تَكُونُ فِيهَا

وَلا تَقُل إِنَّنِي غَريبُ

قَد يوصَلُ النازِحُ النائي

وَقَد يُقطَعُ ذو السُهمَةِ القَريبُ

مَن يَسلِ النَّاسَ يَحرِموهُ

وَسائِلُ اللهِ لا يَخيبُ

أو حين يقول:

وَكُلّ ذي غَيبةٍ يؤوبُ

وغائبُ الموتِ لا يؤوبُ

أعاقرٌ مثلُ ذاتِ رحمٍ

أَم غانِمٌ مثل من يخيبُ

 

ويعد عبيد بن الأبرص أحد ضحايا يوم بؤس النعمان، حيث يروي البغدادي في "خزانة الأدب"، وبأسلوب حواري ماتع أنّ عبيدًا بن الأبرص قدم على النعمان في يوم بؤسِه، فقال له الأخير: هلاَّ كان الذَّبح لغيرِك يا عبيد!..

فقال عبيد: أتتْك بهالكٍ رِجْلاه. فقال له المنذر: أو أجلٌ بلَغ وقته، ثم قال له أنشِدْني، فقد كان شِعْرك يُعْجبني.

فقال عَبيد مقولة سارت مثلا: "حالَ الجَريضُ دون القريض" أي أنّ الغصة والخوف حالا دون قول الشعر..

فقال له النّعمان: أسْمِعني!

فقال: المنايا على الحوايا. أي أنّ الموت يخيّم على ما يحويه في بطنه.

فقال له آخَر: ما أشدَّ جزعَك مَن الموت!

فقال: "لا يُرَحِلَّن رَحْلَـك مَن ليس معك". أي أنّ الأمور يقدرها أصحابها ومن يهمهم الأمر فقط، وتقابل في الأمثال السودانية المثل الذي يقول "البكا بحرروا أهله" وربما قريب الدلالة أيضا من مثل "الجمرة بتحرق الواطيها"..

فقال له المنذر: قد أمللْتني، فأرحني قبل أن آمر بك!

فقال عَبيد: "من عزَّ بَزّ"َ. وتعني أنّ القوي وحده من يملك حق الكلمة. فقال له المنذر: أنشدني قولك: أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ (مطلع معلقته)

فقال عَبيد:

أقفرَ من أهله عبيدُ

فَلَيْسَ يُبْدِي وَلا يُعِيدُ

فقال له المُنذر: يا عَبيد، ويْحَك، أنشِدْني قبل أن أذبَحك، فقال عبيد:

وَاللَّهِ إِنْ مِتُّ لَمَا ضَرَّنِي

وَإِنْ أَعِشْ مَا عِشْتُ فِي وَاحِدَهْ

فقال النعمان: إنَّه لا بدَّ من الموت، ولو أنَّ أبي عرضَ لي في هذا اليَوم لذبحتُه، فاختر إن شئت الأكحل "وريد الذراع"، وإن شئت الأبجل "وريد الرجل"، وإن شئت وريد العنق.

فقال له عَبيد: إن كنت لا مَحالة قاتلي فاسْقِني الخَمْر، حتَّى إذا ماتت مفاصلي، وذهلتْ لها ذواهلي -أي غبت عن رشدي ووقاري- فشأنك وما تريد.

يقول صاحب خزانة الأدب أنّ النعمان بن المنذر أمر بالخمر، ولما أخذتْ الخمر برأس عبيد بن الأبرص، أمر بجلبه للقتل، فلما وقف عبيد بين يديه أنشد قائلا:

وخَيّرني ذو البؤس في يوم بؤسه

خصالا أرى في كلها الموت قد برق

فأمر به النعمان بفصده فنزف حتى الموت.

وقريب من هذا قصة طرفة بن العبد حين هجا الملك عمرو بن هند، بقوله:

قَسَمت الدّهر من زمن رَخيّ،

كذاكَ الدهْر يقصد، أو يجور

لنا يوم، وللكروان يوم،

تطير البائسات، وما يَطيرُ

فغضب الملك غضبا شديدًا عليه وأضمر قتله لكن بحيلة ذكية لمكانة طرفة في قومه، وصادف أن قدم طرفة بن العبد والشاعر المتلمس والذي هجا ابن هند أيضا إليه يطلبان معروفا؛ فاستقبلهما الملك وأحسن استقبالهما وقال لهما اذهبا إلى عاملي في البحرين ليعطيكما جوائزكما وسلّم كل واحد منهما مكتوبا لتسليمه لعامله في البحرين، وكان الشاعران أميان لا يحسنان القراءة. فلما خرجا من عنده قال المتلمس: يا طرفة! إنك غلامٌ حديث السن، ولست تعرف ما أعرف، وكلانا قد هجاه، ولست آمن أن يكتب بما نكره، فتعال ننظر في كتابه! فرفض طرفة أن يفتح كتابه؛ أمّا المتلمس فمضى يطلب غلاما من أهل الحيرة ليقرأ له ما في الرسالة، فعرف المتلمس أنّ الملك أمر عامله في البحرين بقتلهما فألقى بالرسالة في النهر وقفل راجعا يبحث عن طرفة ليحذّره.. لكنه لم يدركه.

وصل طرفة إلى عامل البحرين، وقدم له خطاب الملك عمرو بن هند، فقرأه وقال له: هل تعلم ما أُمرت به؟ قال: نعم! أُمرت أن تجيزني وتحسن إليّ. فقال: يا طرفة! بيني وبينك خؤولةٌ أنا لها راعٍ حافظٌ. فاهرب في ليلتك هذه، فإنّي قد أمرت بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك النّاس.

فقال له طرفة: اشتدت عليك جائزتي، والله لا أفعل ذلك أبداً.

فلما أصبح الصباح أمر الوالي بحبسه، وكتب احتجاجا إلى عمرو بن هند يرفض فيه أن يقتل طرفة، وإن شاء فليبعث بمن أراد؛ فعزله عمرو بن هند وعيّن مكانه والٍيًا جديدا استطاع تنفيذ الحكم على طرفة.

وكذلك توسد الأديب ابن المقفع صاحب الكتاب المشهور "كليلة ودمنة" قبره بل أن يبرح العقد الثالث من عمره بسبب رأيه السياسي الذي ضمّنه أضابير كتابه. وتروي كتب التاريخ والأدب صورًا عدة من أسباب مقتله حيث يقال إنّه مات على يد والي البصرة سفيان بن معاوية في عهد الخليفة المنصور، والذي قام بتقطيعه شلوًا شلوًا، ورمى تلك الأشلاء في نار موقده فضاعت رائحة الشواء في القصر كله..

ويقال أيضا إنّه دخل دار الخلافة ولم يخرج منها حتى يومنا هذا. وتشير أصابع الاتهام إلى الخليفة المنصور، والذي يقال أنه قتله جزاء على تمرّده، ومناصرته عم الخليفة الذي أراد الإطاحة به.

والحالة الثالثة هي للشاعر الكميت بن زيد الذي أراد بنو أمية قتله وتحديدًا هشام بن الحكم لمناصرة الهاشميين وآل البيت الذين كانت بينهم وبين أمية ثأرات وضغائن بسبب الملك والحكم. فقد كان الكميت يجاهر بآرائه السياسية في قصائده لاسيما قصيدته التي مطلعها:

طَرِبتُ وما شَوقاً إلى البِيضِ أَطرَبُ

ولاَ لَعِبَاً أذُو الشَّيبِ يَلعَبُ

وكذلك في قصيدة أخرى يقول فيها مادحا بني هاشم:

ساسة لا كمن يرى رعية الناس سواء أو رعية الأنعام

لا كعبد المليك أو كوليد أو سليمان بعد أو كهشام

وبرغم أنّ الكميت نجا من قتل الخليفة بعد العفو عنه إلا أنّه قضى نحبه على يد بعض الجند المجهولين المتعصبين؛ كما تقول كتب الأدب.

وإن كان من وصف دقيق يطلق على هؤلاء الشعراء وأمثالهم كحماد عجرد وابن الرومي وبشار بن برد والذين راحوا جميعًا ضحية كلماتهم وأشعارهم على يد الخلفاء والمتحكمين؛ فربما يكون أصدق وصف هو "قتيل سياسي".