هل نعيش أزمة قراءة؟

 

 

عبدالله العليان

منذ ظهور التطور العلمي في عالم الإعلام، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي، والشكوى من أزمة القراءة أصبحت حديث المهتمين والمتابعين لكل جديد في عالم الكتب، وهذه مسألة باتت تشكل قضية وعي للأمة؛ فالكتاب لا غنى عنه، مهما توسعت وسائل التواصل.

لا شك أنَّ هذه الوسائل أثرت على القراءة في الكتاب، حتى الذين كانوا من القراء، جذبتهم هذه الوسائل، وأصبحوا أسرى لها، فأحد الأصدقاء من الكتاب المتفرغين، قال لي منذ فترة، إنني أشتري كُتباً من معرض مسقط الدولي للكتاب كل عام، وأضعها على الرفوف، ثم يأتي المعرض الثاني وأشتري أيضا وهكذا، دون أن أقرأ، سواء عناوين أو صفحات قليلة من مقدمات الكتب، من هذه الكتب، وأهرب لوسائل التواصل!! ويروي د. محمد حامد الأحمري مع الكتب من خلال كتابه الضخم "مذكرات قارئ"، وهذا الكتاب حقيقة يعتبر من أمتع وأعمق الكتب التي قرأتها من حيث سعة المعارف التي كتبها الباحث الأحمري، التي تكشف سعة الاطلاع والثقافة لهذا المفكر.. يقول د. الأحمري في مقدمة هذا الكتاب: بعدما تجاوزت الأربعين، غلبني إحساس شديد بالحاجة إلى الكتابة عن الكتب، لا أكتب؟ وقد قضيت معظم ما مرَّ من سنوات وعيي قارئاً، فلا أكتب عما أشغلني طوال هذه السنين، بدأت فوجدت النصوص التي أذكر مواقعها، والأفكار التي مررت بها، والنتائج التي توصلت لها ماثلة للعيان، تنادي كل منها من زاوية قريبة أو بعيدة، كلها تطلب الحضور إلى عالم الوجود، هاربة من عالم النسيان، تخفيها اللحظات القادمة، ويروعها أن تُمهل ذات يوم، ثم تذهب في ذرَّات الكون روحاً بعيدة عن جسد، في نعيم أو جحيم لا أدري! وقد أعذر الله إلى رجل بلغ الأربعين، وهنا يحس بأن صحة الجسد والروح، ومتعة العقل والفهم تحتاج إلى توازن ورعاية، وأن هذا الوجود -أناساً وكوناً- يستحق أن تترك لهم بعدك خيراً هو خير ما عرفت، أو تترك لهم خبراً عما كان منك، فتدعه هناك لهم".

ويشرح د. الأحمري قصة هذه المذكرات التي تختلف بشكل عن المذكرات الأخرى، أو السيّر الذاتية، وكيف أنه لم يسر في هذا الطريق المعروف عن كتابة الذكريات أو المذكرات، فيقول: "وبما أن كتب المذكرات هي من أكذب مصادر التاريخ فليس هذا من نمط كتب المذكرات التي يمكن وصفها بذلك الوصف، وليس من تلك المذكرات التي تقول إن صاحبها صنع التاريخ، وحرك الزمان يوم وقف ببابه، ولا إن صاحب المذكرات أنقذ القراءة أو الكتاب، ولا إنه سيقول لك فلسفة للقراءة لم تُقل من قبل. فالكتاب أقرب لأن يكون معاناة المثقفين مع الكتابة. وأشفقت عليك، وعلى نفسي أن تغيب عن كتابي، فجاءت هذه الأنانية تندس بين جماهير الكتب والقراءة، ولم أحب أن اقمعها، ولا أن تغيب، وأنَّى لي أن أغيبها عن موضوع لُبُّه القراءة، شغف أفرغت فيه أعواماً، وهممتُ به، وأنفقت أثمن ما ملكت في سبيله: الوقت والمال والعلاقات، ومرحاً كثيرة، ومتعًا أخرى في سبيل هذا الكتاب". ولا شك -بحسب د. محمد حامد الأحمري- أن القراءة تدفع وتتقارب مع الكتابة، أو هي نتيجة من نتاج القراءة، فالذي يقرأ تتحسن لديه صياغة الفكرة الدافعة، عند البعض للكتابة، فهناك خيط رفيع بين القراءة والكتابة، وهذا ما يجعل القارئ النهم يعرف كيف يتخّير الوقت الذي يقتنص فيه الأفكار، إذا ما أراد أن يمارس فعل الكتابة، في أي من الفنون الذي يختارها، ذلك -كما يرى د. الأحمري- أن: "القراءة والكتابة توأم، فقد تعرضت لقضايا في الكتابة في هذا السياق، والكتابة بعد المعرفة صيد للفكرة، وصيد للوجدان. وقد يجملون الجانبين في المزاج؛ فالكتابة الجيدة لها شروط وجود عديدة، وهي كبقية الفنون يحاولها كثيرون ويجيدها القليلون، وإن لم يكن صاحب الفكرة قادرًا على صيدها وتسجيلها ثم التفكير فيها وصياغتها ذهبت منه. وكذا الشاعر إن لم يحبس لحظة الوجدان ويسجلها، فلن يكون قادراً على أن يكون شاعراً".

ويختتم د. الأحمري تعليقه عن مشروع هذا الكتاب، الذي خصَّصه لقراءاته الممتدة لعقود طويلة في مسيرته الفكرية، التي طاف فيها في كل الأفكار والثقافات والأيديولوجيات، وأنتجت هذا الكتاب، فيقول: "فهذه الصفحات إن لم تكن علمية الهدف، ولا خالصة الصناعة في فن معروف ولا درب مسلوك من قبل؛ فذلك أحرى بها وأقرب لهدفها، فإني ما تعمدت نسجها على مثال، ولا أن تكون شبيهة بغيرها. ولست أستبعد أنني في قراءتي لعرب أو غيرهم، قد تأثرت بطريقة بعضهم. ومما أمتعني فتأثرت به -وقد حدا بي لكتابة هذا- أنني كنت أرجو أن أقرأ مثل هذا القول منذ زمن، وكلما قابلت في كتاب صفحات شبيهة به فرحت بها وأنست واستمتعت، ولكن هذه النماذج لا تجدها إلا قليلة مقطعة في الكتب، ثم ينصرف كاتب الكتاب لما يراه أهم منها. هذا عن طريقة الكتابة. أما المحتوى والأسلوب، فلن تُشابه غيري إلا أن يحيا حياتي ويقرأ قراءتي، ومهما تشابهت الكتب والمذكرات إلا أنَّ في كل واحدة منها لمسة شخصية فريدة، وخصوصية مفيدة لا تجد لها شبيهًا من قبل ولا من بعد. وهذا من آيات الله في اختلاف الناس والأيام والأشباه والظروف والنفوس، فما أجمل حياة كل ما فيها جديد!".