عالم جين مورس

محمد علي العوض

يتحدث في الدين.. الفلسفة.. يقرأ الشعر وروحانيات الشرق وينقد الرسم.. يفعل ويقول كل شيء من أجل جلب الفتاة إلى مخدعه.

هكذا كان فراش مصطفى سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" خليطا من فتيات جيش الخلاص وجمعيات الكويكرز، ومجتمعات الفابيانيين.

صورة نموذجية للدون جوان الساحر، ومتاهة الرغائب الجنونية التي تدفع القاضي لسؤاله: "أليس صحيحا أنّك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923، في هذه الفترة وحدها على سبيل المثال كنت تعيش مع خمس نساء في آنٍ واحد؟".

جين مورس.. أهم شخصيّة أنثوية غربية في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" واحدة من هولاء؛ بألاعيبها وشخصيتها المتغطرسة المتقلبة حولت مصطفى سعيد من صياد إلى فريسة مكسورة الخاطر والكبرياء.. يقول: "أردت أن أراقصها، فقالت لي: لا أرقص معك ولو كنت الرجل الوحيد في العالم. صفعتها على خدها فركلتني بساقها وعضتني في ذراعي بأسنان كأنها أسنان لبوة".

"يتفجّر في كيانها بركان من العنف فتكسر كل ما تناله يداها من أوانٍ وتُمزِّق الكتب والأوراق. كان هذا أخطر سلاح عندها. كل معركة تنتهي بتمزيق كتاب مُهِمٍّ، أو حرق بحث أضعت فيه أسابيع كاملة".. هكذا قال مصطفى سعيد.

وبرغم ذلك يزداد تعلقه بها. ولا يكاد يستمع لملاحظات المارة الذين كانوا يقولون تعليقًا على تصرفاتها: إنك متزوج من عاهرة (ونحن في حانة صرخت فجأة: ابن العاهرة تغازلني؟ وثبت على الرجل وأخذت بخناقه وأخذ بخناقي واجتمع علينا الناس، وفجأة سمعتها تقهقه بالضحك وراء ظهري وقال لي أحد الرجال الذين جاءوا يفصلون بيننا: يؤسفني أن أقول لك هذه المرأة إذا كانت زوجتك فإنّك متزوج من مومس. هذا الرجل لم يكلمها بكلمة. يبدو أنّ هذه المرأة تحب منظر العنف. وتحول غضبي إليها، فذهبت إليها وهي ما تزال تقهقه فصفعتها فأنشبت أظافرها في وجهي).

كان يحلو لها أن تغازل كل من هبّ ودبّ حين تخرج مع مصطفى سعيد.. كانت تغازل جرسونات المطاعم وسائقي الباصات وعابري السبيل، وكان بعضهم يتشجع ويستجيب ويرد بعضهم بعبارات بذيئة فيتشاجر بطل الرواية مع الناس ويضربها وتضربه في عرض الطريق. وما أكثر ما تساءل عمّا الذي يربطه بها. لماذا لا يتركها وينجو بنفسه؟

وبرغم خيانتها له والاعتراف بذلك يقف مصطفى سعيد مصلوبًا في عالم جين مورس قائلا: (كنت أعلم أنها تخونني. كان البيت كله يفوح بريح الخيانة. وجدت مرة منديل رجل، لم يكن منديلي. سألتها فقالت: إنّه منديلك. قلت لها: هذا المنديل ليس منديلي، قالت: هبه ليس منديلك. ماذا أنت فاعل؟ ومرة وجدت علبة سجائر ومرة وجدت قلم حبر، قلت لها: أنت تخونينني. قالت: افرض أنني أخونك. صرخت فيها: أقسم أنني سأقتلك. ابتسمت ساخرة وقالت أنت فقط تقول هذا. ما الذي يمنعك من قتلي؟ ماذا تنتظر؟ لعلك تنتظر حتى تجد رجلاً فوقي.. وحتى حينئذ لا أظنك تفعل شيئاً. ستجلس على السرير تبكي).

لم تكن جين موريس أبدا فريسة سهلة لمصطفى سعيد مثل آن همند طالبة اللغات الشرقية التي كانت تحن لمناخات استوائية وشموس قاسية وآفاق أرجوانية بعكس مصطفى سعيد الجنوبي الذي يحن إلى الصقيع، ولم تكن كـ "شيلا غرويند" الخادمة التي دوختها رائحة الصندل المحروق والند، أو الأربعينية إيزابيلا سيمور، زوجة الجرَّاح الناجح، والمتدينة صاحبة أعمال البر؛ والتي وقعت في شرك النيل، ذلك الإله الأفعى حين فاز بها ضحية جديدة من خلال كلام مصطفى سعيد المعسول.. كانت جين مورس كما يقول "أحمد كُرَّيم" نقطة تحول في حياة مصطفى سعيد، فقد ظل يطاردها ثلاث سنوات دون فائدة، وحين يئس من قربها وولوجها مخدعه حاول نسيانها والهرب منها، لكنها كانت تضع نفسها في طريقه.

أحيانا يهينها فترد له الإهانة بأكثر منها، وفي النهاية عرضت عليه الزواج؛ فوافق وتم الأمر؛ لكنها لم تُمَكِّنْه من نفسها طوال شهرين، متذرعةً بأسباب شتى، واهية (ولما ضمنا الفراش ليلاً أردتها فأدارت لي ظهرها وقالت: ليس الآن. أنا متعبة. وظلت شهرين لا تدعني أقربها، كل ليلة تقول: أنا متعبة. أو تقول أنا مريضة)..

بعد شهرين وهبت جين موريس نفسها لمصطفى سعيد؛ لكنه سدد خنجره وقتلها بعد أن تراكمت في نفسه من جرّاء هذه الفتاة أكداس المذلة والمهانة. وكلفه ذلك سبع سنوات سجنًا.

يصف "كريم" الاشتهاء بين مصطفى سعيد وجين مورس بالمتبادل، وإن كانت دوافعه مختلفة، فمصطفى سعيد يشتهي اقتحام العالم الغربي وإرضاء كبريائه وروحه وفرض ذاته المنبوذة عليه. وفي المقابل كانت جين مورس تشتهيه وتحتقره في نفس الوقت، تدفعها في ذلك رغبة التَمَلُّك والاستحواذ من منطلق عنصري، يرمز إلى مطامع الاستحواذ الغربيّة وشهوة تملّك الشرق في أنانية وغرور.

بينما يرى جورج طرابيشي أنّ جين مورس تمثل الحضارة الغربية المتفوقة التي تدرك بالضبط هذا التفوق وحجمه، وأنها جرحت كبرياء مصطفى سعيد وردته على أعقابه سنوات، ولم تقبل أن تلج إلى فراشه إلا بشروطها المُذلة التي لم يملك مصطفى سعيد بدا من الانصياع إليها (وظلت واقفة أمامي كشيطان رجيم، في عينيها تحد ونداء أثار أشواقاً بعيدة في قلبي. لم أكلمها ولم تكلمني، ولكنّها خلعت ثيابها ووقفت أمامي عارية. نيران الجحيم كلها تأججت في صدري كان لا بد من إطفاء النار في جبل الثلج المعترض طريقي. تقدمت نحوها مرتعش الأوصال، فأشارت إلى زهرية ثمينة من الموجودة على الرف. قالت: تعطيني هذه وتأخذني. لو طلبت.. مني حياتي في تلك اللحظة ثمناً لقايضتها إياها. أشرت برأسي موافقاً. أخذت الزهرية وهشمتها على الأرض وأخذت تدوس الشظايا بقدميها حتى حولتها إلى فتات. أشارت إلى مخطوط عربي نادر على المنضدة. قالت تعطيني هذا أيضاً. حلقي جاف. أنا ظمآن يكاد يقتلني الظمأ. لا بد من جرعة ماء مثلجة. أشرت برأسي موافقاً. أخذت المخطوط القديم النادر ومزقته وملأت فمها بقطع الورق ومضغتها وبصقتها. كأنها مضغت كبدي، ولكنني لا أبالي. أشارت إلى مصلاة من حرير أصفهان أهدتني إياها مسز روبنسن عند رحيلي من القاهرة. أثمن شيء عندي وأعز هدية على قلبي. قالت: تعطيني هذه أيضاً ثم تأخذني. ترددت برهة ولكنني نظرت إليها منتصبة متحفزة أمامي، عيناها تلمعان ببريق الخطر وشفتاها مثل فاكهة محرمة لا بد من أكلها. وهززت رأسي موافقاً، فأخذت المصلاة ورمتها في نار المدفأة ووقفت تنظر متلذذة إلى النار تلتهمها فانعكست ألسنة النار على وجهها. هذه المرأة هي طلبتني وسألاحقها حتى الجحيم. مشيت إليها ووضعت ذراعي حول خضرها وملت عليها لأقبلها. وفجأة أحسست بركلة عنيفة بركبتها بين فخذي. ولما أفقت من غيبوبتي وجدتها قد اختفت).

يرمز عالم جين مورس في رواية موسم الهجرة إلى الشمال إلى الغربة والصقيع واحتدام الرغبة والصراع بين جنوب وشمال (وحملني القطار إلى محطة فكتوريا، وإلى عالم جين موريس).. عالم جعل حياة البطل بين برزخين (كل شيء حدث قبل لقائي إيّاها كان إرهاصا، وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذارا، لا لقتلها بل لأكذوبة حياتي).. أو كما وصف مصطفى سعيد.