رأسمالية الكوارث 2 - 3

 

عبيدلي العبيدلي

 

 

واللجوء إلى الصدمة، من خلال توليد الكارثة ليس أسلوبا حديثا في تاريخ مساعي الاحتكارات الرأسمالية للسيطرة على الشعوب، والتحكم في مصائرها، بعد الهيمنة على مفاصل اقتصادها، إذ تعود أصوله لما يزيد على نصف قرن من الزمان، عندما شرعت الرأسمالية في الترويج لنشر مفهومًا مشوهًا للخصخصة في صفوف الدول النامية، تمس الخدمات العامة التي، يفترض أن توفرها الدول، وخاصة الميسورة منها، لمُواطنيها. وتم التركيز حينها على خصخصة التعليم، بوصف كونه القطاع الذي يُخاطب العقول التي ستسير أمور الدولة المعنية مستقبلاً. ومن خلال تلك التهيئة المنطلقة من "الصدمة"، المنبثقة من افتعال الكوارث، تتم عمليات التلاعب بمصائر شعوب الأمم التي تعرضت لتلك الصدمة التي غالبًا ما تكون مدبرة، ويتم رسم تفاصيلها في دوائر البلاد القادمة من أجل السيطرة، ونهب الخيرات.

وبدأ أول ما بدأ تطبيق هذا المفهوم الاستعماري، على مستوى الأفراد. حيث، وكما تورد العديد من المصادر الموثوقة، "نشأت عقيدة الصدمة في الخمسينيات من القرن العشرين في مجال الطب النفسي. فقد تعاونت وكالة الاستخبارات الأمريكية مع الطبيب النفسي الكندي البارز دونالد أيوين كامرون، ومولت أبحاثه عن استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء لإعادة كتابة المعلومات الملائمة عليها. كان كاميرون يعتقد أن ثمَّة عاملين مهمين يتيحان لنا الحفاظ على إدراكنا هما البيانات الحسية التي ترد لنا باستمرار، والذاكرة. لذلك حاول إلغاء الذاكرة بواسطة الصدمات الكهربائية والمهلوسات، وحاول إلغاء البيانات الحسية بواسطة العزل التام".

تلقف أساس هذه النظرية، من أطلق عليه "طبيب الصدمة الاقتصادي" ميلتون فريدمان، في الخمسينات من القرن الماضي، وكان فريدمان حينها رئيس قسم العلوم الاقتصادية بجامعة شيكاغو الاقتصادية، التي تصفها نعومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة ورأسمالية الكوارث"، بأنها تحقق طموحات فريدمان، المرتكزة على أحلام الطبيب كاميرون "بإعادة ذهن الإنسان إلی حالته النقيّة، كذلك حلم فريدمان بتفكيك نمط المجتمع، وتحويله إلی حالة من الرأسمالية النقيّة من جميع التشويشات الخارجية".

إذ تنطلق نظرية فريدمان، من أنه بعيد عن كون الصدمة، حقيقية أو مفتعلة، أو جرى زرع صورتها في ذهن من توجه ضدهم، فهي قادرة على إحداث التغيير المطلوب الذي يبدو حينها وكأنه تغييرا حقيقيا. وعلى هذا الأساس فعلى القوة التي تحاول أن تفرض سيطرتها على شعب آخر، بحيث تخضعه لسياساتها أن تخضع أفراد ذلك الشعب " أوّلاً لصدمة كبيرة تجعلهم مستسلمين لك ولكل ما تلقّنهم إياه، فالشعوب لا تقبل إطلاقاً أن تصبح حياتها واقتصادها بيد حفنة من الرجال الأجانب، فلابد من صدمة كبيرة لأهل البلد تجعلهم فاقدين للوعي كي يقبلوا بالتغييرات الجديدة".

 وبعد عملية سلب الإرادة تبدأ عمليات سلب الحقوق، تليها نهب الموارد، بعد تشويه الاقتصاد، ويتم كل ذلك بمهنية عالية، وفق حلقات متتابعة يتم رسم دوائرها في حجرات صنع قرار الدولة الغازية، أو الباحثة عن السيطرة.

ولم تنجح هذه النظرية القائمة على الصدمة المُباغتة، وأحياناً المتدرجة، طبقًا لعوامل البلاد المستهدفة، في بلدان ضعيفة مثل تشيلي والأرجنتين، بل حتى في بلدان ذات قوة عظمى مثل الاتحاد السوفيتي. لكن يبقى المثال الأبرز بينها في أمريكا الجنوبية هو ما حلَّ بدولة تشيلي إثر الانقلاب الذي رتبته وكالة المخابرات الأمريكية في 29 يونيو 1973، وما لحقه من تطبيق أفكار مدرسة شيكاغو التي قادت إلى بيع الدولة برمتها للاحتكارات الأجنبية، بعد أن دمرت إنجازات عهد سلفادور إليندي، دون أن يعني ذلك خلو تجربة هذا الأخير من أخطاء قاتلة. لكنها لم تكن الأسباب التي قادت وكالة الاستخبارات الأمريكية للتدخل والإطاحة بحكمه، بقدر ما كانت تسعى إلى إحداث الصدمة المطلوبة، التي يعقبها غرق البلاد في كوارث اقتصادية متتالية، تنعش رواد مدرسة "رأسمالية الكوارث"، كي يتوجهوا نحو سنتياغو كي تمارس رأسمالية الكوارث دورها في إعادة تشيلي تحت السيطرة الأمريكية، كي يتسنى لها السيطرة عليها، ونهب خيراتها، بعد تشويه اقتصادها، إثر تفكيك إنجازاته.

ولم تنجو المنطقة العربية من مخالب تلك "الرأسمالية"، المنتعشة في زمن "الكوارث". ولعل أبرز مثال على تطبيق نظرية "الصدمة" التي تسلب الدولة إرادتها، قبل أن تعقبها "الكارثة"، لتحولها إلى لقمة سائغة في فم من قام بافتعال تلك الصدمة، هو ما جرى في العراق في العام 2003، على يد الغزاة الأمريكان.

وتصف كلاين ما جرى في العراق، وفي نطاق الحديث عن استراتيجية توليد الصدمة قائلة "تعرض العراق لثلاث أشكال من الصدمة، صدمة الحرب، تلاها مباشرة العلاج بالصدمة الاقتصادية، التي فرضها بول بريمر، ومع ازدياد المقاومة للتحول الاقتصادي، بدأت صدمة الإكراه متضمنة التعذيب".

هكذا إذًا، بدأت الصدمة، بتصوير العراق مالكا للأسلحة النووية، وتلك التي وصفت بـ "أسلحة الدمار الشامل". وساهم في رسم معالم العراق كل من رئيس البنك الدولي الأسبق "بول وولفوفيتز"، ومساعد وزير الدفاع الأمريكي، حينها "دونالد رامسفيلد". وبلغت الصدمة المباغتة حينها قمتها، عندما شرعت القوات الأمريكية في غزو العراق، الذي فاق من تلك الصدمة ليلج الكارثة التي ما يزال يعيش العراق تداعياتها، متمظهرة في مستوى انتشار الفساد، وغياب سلطة الدولة، والخضوع للنفوذ الإيراني. كل ذلك مع تفشي الفقر، وتوسع نطاق الفوضى.

باختصار شديد سقط العراق لقمة سائغة في أحضان الأمريكان، وتحلقت حول جثته الضواري التي تقتات من الجيف من أمثال إيران.

وليس ما يجري اليوم في العراق، من تفكيك لمؤسسات الدولة، وتغييب كامل لحضورها في خطط التنمية والإعمار، وتدمير البنية التحتية، وهدم المؤسسات التعليمية، سوى قطعة الثلج التي تخفي جبل الجليد الذي يحمل في ثناياه كل أسلحة "رأسمالية الكوارث" التي تحدث عنها أنتوني لوينشتاين في كتابه، وسبقته إليها نعومي كلاين.