اجتماع أكاديمي في جامعة جلاسجو

د. سيف بن ناصر المعمري

 

إذا أردت أن تعرف أين تتجه أي أمة؛ أو مؤسسة من المؤسسات فانظر إلى نمط اجتماعاتها، فهو كفيل بأن يُخبرك بأشياء كثيرة؛ وكأنه قارئ كف أو فنجان حذق قادر على أن يفك لك بسهولة ويسر تلك الخطوط المُتداخلة التي يولد منها إما رؤية أو أنها تقود إلى صناعة عالم ضبابي تنعدم فيه تلك الرؤية؛ فالاجتماع يكشف النمط الفكري الذي تصل إليه أي أمة في إدارة شؤونها المُختلفة؛ سواء من حيث الشكل أي إدارة هذا الاجتماع، أو من حيث المحتوى الذي يتم مُناقشته؛ أو من حيث مستوى الشفافية أو السرية التي يتم فيها التعامل مع المواضيع؛ أو من حيث مستوى إشراك الجميع في النقاشات أو إقصاء الغالبية العظمى نتيجة كونهم مُجرد أرقام في المؤسسة لا أهمية لإشراكهم فيما يجري.

 عادت هذه التأملات إلى ذهني مرة أخرى يوم الثلاثاء الماضي 10 ديسمبر وأنا أحضر الاجتماع الثاني للمجلس الأكاديمي لكلية التربية بجامعة جلاسجو، فقد ظهرت لدي منذ الاجتماع الأول الذي كان يوم 16 أكتوبر الماضي؛ وكنت أحسب أنه لا حق للزائرين في حضور اجتماعات المجلس التي تعقد عندهم أربع مرات خلال العام، بواقع ثمان ساعات أي ساعتين لكل اجتماع فقط، بل وأنا في طريقي للاجتماع الأول وقبل أن أدخل الغرفة المُحددة للاجتماع كنت أحدث نفسي بعدد المجتمعين الصغير المنتقين بعناية لأسباب تراتيبية أو بسبب درجات علمية كبرى أو لمناصب إدارية..وطالت القائمة في ذهني..ولكن تهاوت كل تلك التخمينات وأنا أدخل الغرفة حيث وجدت جميع أعضاء الكلية يفترش بعضهم الأرض لأنه لم يجد مقعداً، ووجدت امرأة واقفة في المُقدمة تتحدث إليهم وليس لديها أي كرسي وظهر بعد ذلك أنها عميدة الكلية.. والمنوط بها إدارة الاجتماع، وتوزيع بنود الاجتماع المختارة بعناية لأهميتها، وتظل بعد ذلك واقفة، دون أن تصادر أي كرسي من هؤلاء الجالسين والذين ينصتون بعناية لما يعرض، فلا همس ولا مقاطعة، ولا رنة هاتف، ولا صحون فاكهة مما يشتهون يمكن أن تصادر تركيزهم، ولا أحاديث جانبية تتطلب من عميدة الكلية أن تلفت انتباههم للسكوت وكأنهم طلبة في صف دراسي، كانت الجدية هي سيدة الموقف، لكنها جدية لم تمنع من بعض الضحك الجماعي على الأسلوب الذي كان البعض يُقدم به بعض المواضيع المنوطة به.

في هذا الاجتماع تعرض مواضيع محددة متعلقة ببعض السياسات المتعلقة بمستقبل الكلية كخطتها المستقبلية، أو تلك المتعلقة بتسويقها، أو تلك المتعلقة ببعض البرامج التي يُمكن أن تقدم من خلال الكلية، وكل موضوع يعرضه شخص مُحدد من خلال شاشة العرض، ويتم أخذ تعليقات حوله إن وجدت في الوقت الزمني المُحدد، ومما يثير الانتباه أنَّه لا توجد أي ملفات وأوراق كثيرة أمام الحاضرين بما فيهم عميدة الكلية، لا ورق في الاجتماع، ولا أجهزة تابلت لمواكبة التقدم التقني، رغم توظيف التقنية الكبير في الكلية والجامعة؛ هنا لا تصويت لديهم على ما يجري، فلا ديمقراطية تصويت لأنهم استغنوا عنها من خلال لا مركزية العمل من خلال لجان مُتخصصة تقوم بذلك، بل وأحياناً منسقات أوكل إليهن إجازة أمور معينة مثل رسائل رسمية وغيرها مما يقود إلى تخفيف المركزية، هنا لا سرية تحجب مواضيع مُعينة قبل نضوجها فالكل من حقه أن يعرف ما يجري ويقدم رأيه حين يُطلب منه، بما فيهم طلبة الدراسات العليا الذين حضر بعضهم الاجتماع لنقطة معينة متعلقة بهم، ولكن لم يطلب منهم الحضور حين مُناقشة تلك النقطة بل حضروا الساعتين واستمعوا إلى ما يجري من نقاشات تمس شؤونهم ومستقبل كليتهم فلم إخفاؤها عنهم؟،

هنا لا يقوم المجلس بتشكيل مزيدٍ من اللجان من التي لا تساعد على إنجاز العمل بل تساعد على تعقيده، فالمؤسسة أكاديمية ولابد أن تكون نموذجا لحسن الإدارة، وتسهيل اتخاذ القرارات التي لا تكتسب شرعيتها من خلال تصويت مجلس، كما يجري في مؤسسات أكاديمية أخرى، فشرعية القرارات تتخذ عبر اللجان وتستمد شرعيتها من خلال تماشيها مع المعايير والقواعد الموضوعة التي لا يمكن لأي أحد أن يعبث فيها، نتيجة سلطة معنية يمثلها، هنا لا حضور للأقسام ولا يمكن أن تتعرف عليها، ولذا لا يمكن أن يظهر ذلك الاقتتال والصراع الذي يظهر في مجالس أماكن أخرى على جوانب ليست ذات قيمة، يتم فيها عادة اتخاذ قرارات غير منطقية ولا موضوعية، وتعبر عن أزمة ممارسات إدارية بعيدة عن ما يجري في العالم المتقدم، هنا لا يوجد تفريخ للمرجعيات الأكاديمية التي يتم صناعتها في مؤسسات أخرى، فتستحوذ على كثير من فرص الحديث وتمارس وصاية ليست من حقها على المؤسسة وتعتقلها للعديد من السنوات نتيجة قيامها بصناعة مرجعيات صغيرة تقوم بنفس الدور السلبي، هنا لامجال لكل ذلك، فالكل له دور يجب أن يقوم به في إطار منظومة تحرسها هذه القيم التي تحكمها القوانين والتشريعات التي لا يمكن أن يطوعها أحد لصناعة إدارة داخل الإدارة، أو أن يقود بها إلى إنشاء شلل تقوم بممارسات الأخ الأكبر الذي تحدث عنه الروائي البريطاني جورج أورويل في رواية (1984). في مؤسسات أكاديمية هذا الاجتماع أظهر بالطريقة التي أدير بها، حرصًا على الحفاظ على الوقت الذي لا يتجاوز (8) ساعات خلال العام؛ وهو نقيض اجتماعات تستمر لنهار كامل، أو ليوم كامل، كما أنه يتم الحفاظ فيها على الموارد من أوراق وملفات، وتغذية، وغيرها، فهذه أموال عامة لابد من مراعاتها، هنا لا توجد كراسي فخمة للمجتمعين، فالاجتماع في غرفة دراسية بها كراسي محدودة والبعض كما ذكرت افترش الأرض، هنا استمع رؤساء الاجتماع الذين ظلوا واقفين لملاحظات أعضاء الكلية، ودونوها، والأساتذة كانوا على ثقة بأن آراءهم موضع أهمية، وثقتهم نابعة من عدم تجريبهم لأساليب إدارية وممارسات تبعث على عدم الثقة، وهذه الثقة هي نتيجة ممارسة ديمقراطية لا يمكن أن تصل إليها المؤسسات إلا بمراجعة نفسها، ومراجعة قواعدها ومؤسساتها، فلا يمكن أن تقول لي إن التعقيد وكثرة المجالس والتصويت تعبر عن ممارسة ديمقراطية، فالديمقراطية تتأثر هنا بشكل المجلس ونمط إدارته، وما يملكه رئيس المجلس أو المرجعية التي يقيمها من هالة تقود إلى تغليف ما يجري من قرارات بطابع ديمقراطي وهي بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، لم تنته التأملات فهناك اجتماعان آخران في العام القادم، ولكن سؤال مهم نختتم به المقال وهذه التأملات موجه لمتخذي قرار المؤسسات الأكاديمية، إذا كانت مؤسساتكم هي أكثر بيروقراطية وتعقيدًا، فما النموذج التطويري الذي تقدمونه للمؤسسات العامة؟