محنة المُسرَّحين.. أزمة تمس الأمن الاجتماعي

د. عبدالله باحجاج

لو تركنا الشركات تحتكم لضمائرها في مسؤولياتها الاجتماعية -سواء في الأمور الاستثنائية أو الاعتيادية- لما أبقتْ عمانيًّا واحدًا يعمل فيها؛ لأنها تفضِّل الأجنبي على المواطن، ولأنها لم تُؤسَّس على مبدأ المسؤولية الاجتماعية، وعلى مبادئ التعاون وحق توزيع الأعمال، وتوسيع قاعدة الانتفاع، وإنما احتكار الأعمال من قبل شركات معينة؛ لذلك قد يَطَال التسريح مجموعة شركات تنتمي لعائلة واحدة، أو لمسؤول واحد، أو تنتمي لشركات أجنبية جُل همها تحقيق سقف فلكي من الأرباح، ولن تتنازل عنه.

ولنا تاريخٌ طويل مع هذه الشركات في تِلكم القضايا؛ فضميرها لم يُؤنبها في قضايا تمس الصحة العامة، فتاجَرَتْ في سلع مغشوشة ومواد غذائية فاسدة، فكيف ينبغي الرهان على مسؤوليتها الاجتماعية الآن، بل ينبغي التوقع العكس، قياسًا على النتائج الإيجابية التي تُحقِّقها هيئة حماية المستهلك في حَربها معها، ومقارنتها بالتسريح الجماعي لعمال السلطنة، تنضج القناعات بنوايا التسريح للتخلص من العمانيين استغلالًا لطائلة الأزمة الاقتصادية.

وذاكم ما تُوضحه لنا مآلات قضية التسريح الجماعي لعمال السلطنة التي بدأتْ الشركات فيها مؤخرا تتنصَّل من مسؤولياتها الاجتماعية تجاه عمال السلطنة في أشد الأوقات حرجًا تمرُّ به بلادنا سواء بسبب موضوعي أو بدونه، والخيار الأخير قد رجَّحه نبهان البطاشي رئيس اتحاد عمال السلطنة، كاشفا عن أنَّ وراء التسريح التخلص من أصحاب الرواتب الكبيرة.. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما تحدَّث عن خطة مُمنهَجة للتخلص من العمالة العمانية.

والعمل الممنهج معناه أنَّ عملية التخلص من العُمانيين في القطاع الخاص يسير وفق خطة محددة وواضحة، وتحكُمها قواعد معينة، وأن الأزمة الاقتصادية كانت سببا لتسريع الخطة الممنهجة، فأين كانت الجهات الحكومية من هذه المؤامرة؟ فما كشفه البطاشى ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار، فهو صادرٌ عن شخصية في الميدان منذ عدة عقود، ومُطَّلعة على الخفايا والأسرار غير صفته القيادية كرئيس اتحاد عمال السلطنة، ولن يظهر فوق السطح الآن، ويفجر تلكم القنبلة إلا وهو يعني ما يقول، وقد قاله عبر التليفزيون الحكومي.

ومن المؤكد أنَّ بعض الشركات تأخذ التسريح كوسيلة ضغط على الحكومة للحصول على مناقصات، غير أننا نميل هنا كثيرا لأسباب التخلص من كل صفة عمانية في شركات إداراتها أجنبية، وماذا ينبغي التوقع منها غير ذلك؟ وبالتالي تجد في الظرفية الاقتصادية الراهنة، فرصتها الذهبية في تصفية العمال العمانيين؛ لذلك لابد من دق ناقوس الخطر، والمطالبة بتدخل قوي من الجهات العليا؛ لأننا لا نتوقع إيجابيات من واقع محتكر الكل يعرف ملامحه في ظل جمع المسؤول الكبير بين الوظيفتين، صباحا في الوزارة ومساءا في الشركة.

لن ننفي وجود أزمة تعاني منها الشركات، لكنها أزمة لن تكون ذات أمد طويل حتى يكون خيار التسريح الجماعي هو الحل، كما أنها أزمة لم تختبر فيها الشركات كل الخيارات المتاحة للتأقلم معها حتى تعبر الأزمة بسلام؛ فهناك خيارات كثيرة تشكل مُقدِّمة أساسية للشركات للتكيف مع الأزمة قبل اتخاذ خيار التسريح، كتخفيض النفقات.

وقد تعرَّضنا لاستدلال موضوعي نقدمه هنا؛ حيث اكتشفناه بالصدفة اثناء سفرنا مؤخرا: استمرار الشركات في نفس إجراءاتها ونفقاتها الاعتيادية في ظل الأزمة، كسفر ثلاثة من مسؤولي إحدى الشركات المسرحَّة عبر الدرجة الأولى.. لماذا السفر؟ هنا المفاجأة؛ وذلك لحضور معرض دولي في أوروبا لعرض الآليات الحديثة، فهل هناك حالة عاجلة لحضور المعرض وشراء مثلا "كسارات" في وقت الأزمة الاقتصادية؟ وهذا يعبر عن بقاء بند النفقات كما هو دون المساس، والتركيز فقط على خيار الاستغناء عن خدمات العمانيين لدى الشركات.

ويُمكن القياس على هذا التصرف الكثير من التصرفات التي لن تُقنعنا بخيار التسريح الجماعي لعمال السلطنة؛ فهناك الكثير من البنود من النفقات لم تمس، بل ويجري التوسع فيها، وحتى لجوء بعض الشركات للتخلص من عمال السلطنة بحجية "إعادة الهيكلة" لمواجهة تحديات الأزمة الاقتصادية، حجة مرفوضة كذلك، وتشترط فيها بعض الأنظمة القانونية موافقات أولوية؛ منها: قوانين العمل، وزارات القوى العاملة، وهنا نتساءل عن موقف قانون العمل العماني ووزارة القوى العاملة في بلادنا؟ فهل يحق لكل شركة أن تلجأ بإرادتها الفردية لإعادة الهيكلة والتخلص من العمال العمانيين؟

والتسريح بصيغته الجماعية، وبكيفيته الراهنة، يهدد أمن عمال الوطن الاجتماعي والاقتصادي، لأنه يعمق أزمة البطالة؛ حيث يحولهم إلى باحثين عن عمل مع أبنائهم، ويعرض الكثير منهم لإشكاليات قانونية لتوقفهم عن سداد ديونهم، ونعلم شابا قد أصبح مشروع زواجه مجهولا بعد أن تم تسريحه...إلخ، ومن المعلوم أن الأمن الاجتماعي يشكل جوهر الأمن الوطني والإنساني، وله تداعيات على اقتصادنا كذلك؛ فالتسريح واتساع دائرته يُلحِق أضرارا على القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع التضخم ومعدلات البطالة والفقر، وهذا ما نقصده بأنَّ التسريح يهدد الاستقرار والأمن الاجتماعي.

لم تقتنع معالجات الحكومة حتى الآن؛ فمتى يرجع المسرَّحُون إلى وظائفهم، وحالة القلق من التسريح تمتد وتنتشر حتى إلى العمانيين العاملين في الشركات الحكومية، وتصطبغ حالة القلق على مرحلتنا الوطنية، والصمت الحكومي غير مُبرَّر في وقت كنا نتوقع فيه تضافر جهود المسؤولين لحماية عمال السلطنة، وإعداد خطة وطنية تحفظ حقوق العمال عِوَضًا من أن يجدوا أنفسهم فجأة دون راتب، كما لم يُقنعنا تعاطي أعضاء مجلس الشورى مع قضية المُسرَّحِين، ربما أن أدواتهم الرقابية كالتحقيق والاستجواب مؤجلة لما هو أهم، وهل هناك أهم من مخاطر حقيقية تهدد الأمن الاجتماعي؟ وهل هناك أهم من مؤشرات فقدان القدرة الشرائية للآلاف من الأسر؟ هنا تكمُن مشروعية دق ناقوس الخطر.