تغريبة "ما بعد العلمانية" (1)

 

محمود حيدر |  لبنان

مفكر وأستاذ محاضر في الفلسفة السياسية

 

هل قضي أمرُ العَلمانية في الغرب حتى يبدأ الكلام على "ما بعد العلمانية"؟  هذا استفهام بديهي وبسيط، إلا أنه ينثني على تعقيدات يلزم تفكيكها والإجابة عليها الوقوف عند مفرقين: عند التجربة المديدة لتاريخ الحداثة في المجتمعات الغربية.. وعلى تحرِّي المفاهيم والمصطلحات التي أسست للعلمانية ولازمتها سحابة ثلاثة قرون خلت.

    في هذه الحلقة سوف نطل بصورة إجمالية على الظروف والدواعي التي أدت الى الانشغال المستحدث بـ "ما بعد العلمانية" ضمن حلقات التفكير التي جرت في بعض مراكز الأبحاث والمعاهد الجامعية في عدد من العواصم الغربية.

  •  

تومئ كلمة «ما بعد العلمانية» إلى مصطلح حديث الولادة في المجتمع الثقافي الغربي. وتلقاء المطارحات التي جرت حوله في خلال العقد الأول من القرن الجاري، بدا أن هذا المصطلح لا يزال في طوره الابتدائي. بل يجوز القول، أن جلَّ ما حفلت بها حلقات التفكير حول خصائص وسمات منظومة ما بعد الحداثة، كانت شهدت غياباً لافتاً لهذه العبارة. ربما لهذا السبب ـ وأسباب أخرى- لم تتحول «ما بعد العلمانية» إلى مفهومٍ تامِّ القوام.

من المستحسن أول الأمر، أن نتنبَّه إلى مشكلةٍ صارت مألوفةً في التعامل مع المفاهيم المستحدثة. فالذي حصل في الغالب الأعم كان أشبه بانزلاقاتٍ عجولةٍ من طرف النخب شرقاً وغرباً خصوصاً أولئك الذين أخذوا بناصية المفاهيم على غير هدى. في محاذاة «ما بعد العلمانية» ومحاكاتها نرانا أمام شائعة نبتت على حين فجأةٍ وسط زمنٍ مكتظٍّ بالالتباسات، لذا سنكون على شيءٍ من حذرٍ بإزاء «مركَّبٍ معرفيٍّ» لم تكتمل عناصره النظرية بعد. ناهيك عن أنّنا حيال أطروحةٍ أطلَّت علينا من بيئتها الغربية وهي مثقلةٌ بأحمالٍ شتّى، ومحمولةٌ في الوقت نفسه على أفهامٍ وتأويلاتٍ لم تستقر على حال.

مثل سواها من المفاهيم التي أدخلتها الحداثة الفائضة في سجل «المابعديات»، فقد وقعت ما بعد العلمانية في مأزقٍ دلاليٍّ مصحوبٍ بارتباكٍ اصطلاحيٍّ شديدٍ. لقد جرى حملُها كنظائرها السابقات على غير محملٍ وشرحٍ وقصدٍ. تارةً على مستوى دلالة اللفظ، وطوراً على مستوى دلالات المعنى والمحتوى. ولكن في أغلب الأحيان شاع حملُها على محمل النهايات؛ أيْ نهاية ظاهرةٍ ثقافيةٍ وولادة أخرى على أنقاضها. وهذا ليس بمستغربٍ ما دام الحديث عن أفول وقيامة المفاهيم هو أدنى إلى تقليدٍ راسخٍ في حياة الغرب وثقافته. وتلك حالةٌ لم يتوقف سَيْلُها منذ أول نقدٍ لعصر الأنوار جرت وقائعه مع المنعطف الميتافيزيقي، الذي قاده إيمانويل كانط قبل نحو قرنين كاملين. غير أن شغف العقل الحداثي بختم المفاهيم لم يكن لرغبةٍ جموحةٍ ببدءٍ جديدٍ، بقدر ما افترضته تطورات الحضارة الغربية الحديثة وتحولاتها. هذا يعني أن ما بعد العلمانية -كمثل ما بعد الحداثة من قبلها- تومئ نحو انعطافٍ جديدٍ في مشاغل الفكر. ولأنّ التاريخ امتدادٌ جوهريٌّ من الماضي إلى الحاضر المستمر، فكلّ إعلانٍ عن نهاية حقبةٍ ما، هو في الواقع إنباءٌ عن بَدءٍ لأحقابٍ تاليةٍ ليس بالضرورة أن يُحكم عما سبقها بالبطلان. ربما لذلك جاء تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا لا ليطيح بها، وإنما ليؤكد ضرورتها ووجوبها. فالانسحاب والحضور- كما يقول- هما فعلٌ واحدٌ وليسا فعلين متناقضين يميتُ أحدهما الآخر. ذلك بأن المسرى الامتدادي بين الماقبل والمابعد لا ينشط على سياقٍ آليٍّ من النقطة ألف إلى النقطة ياء، بل هو فعاليّةٌ ساريةٌ في جوهر الحركة التاريخية التي تتأبى الانقطاع وترفض الفراغ.

حال الأحداث في التاريخ كحال المفاهيم. هي منه وهو منها، بل ويغتذيان من إناءٍ واحدٍ. ذلك بأنّ كلّ مفهومٍ ينشأ، لن يكون خارج الحدث والشروط الحاكمة على الفكر الذي ينتجه. المفاهيم أدوات معيارية للتعرف على الأحداث وفهمها. الحدث والفكر متلازمان، ولا ينفك عقدهما أبداً. ينشئان للمفهوم محرابه في عالم الفكر، ثم يعود التفكير من بعد أن أضحى في قلب الحدث ليقيمه على نشأةٍ أخرى. لهذا السبب راح الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر (1765-1841) يركِّز على الوقائع الحية في التاريخ الإنساني، ويَطمْئِن معاصريه من الذين يقولون بضرورة النظام المعرفي الجاهز، أن المصطلحات والتعاريف لا تتخذ مسارها على خطٍّ مستقيمٍ، بل تشكل دائرةً تروح فيها وتجيء على نحو التكرار والتفاعل والتجدّد. فليس المهم بالنسبة إليه من أين يبدأ المرء، بل كيف يصل عبر أدواته المعرفية إلى مركز الجاذبية.. أي إلى الغاية الجوهرية المقصودة...

منهج المقاربة:

تبعاً لما مرَّ معنا تتبين لنا المنهجية التي يمكن أن يُقارب فيها مفهوم مستحدث كمفهوم ما بعد العلمانية. فالمقصد العميق من هذه المقاربة، هو إدراك المنزلة التي يحتلها في معترك الأحداث والأفكار من خلال التعرف على ماهيته والأسباب التي دفعت به إلى حقل المداولة.

تبين المعطيات الحديثة أن المراجع التأسيسية لمصطلح «ما بعد العلمانية» تنحصر في أعمالٍ بحثيةٍ صدرت بعد العام 2010. وهذه الأعمال هي حصيلة مؤتمراتٍ خُصِّصت لتظهير هذه القضية. في مقدم الأفكار والنظريات التي استندت إليها تلك الأعمال هي ما اشتغل عليه عددٌ وازنٌ من المفكرين وعلماء الاجتماع في مقدمهم: الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر، وعالم الانثروبولوجيا من أصل إسباني خوسيه كازانوفا.. إلى هؤلاء جمعٌ آخر من الباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي ممن أسهموا بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ في تسييل الكلام على فكرة «ما بعد العلمانية». كان للألماني هابرماس ورفيقه الكندي تايلور على وجه الخصوص مجهودٌ مميّزٌ في التأسيس لنقاشٍ جدّيٍّ بصددها. ومن الأفكار التي شكلت إحدى أبرز خطوط الجاذبية في هذا النقاش، حديثهما عن عالم ما بعد علماني أخذت معالمه تظهر في المجتمعات الحديثة. وهو الأمر الذي ولَّد احتداماً فكريّاً غير مألوفٍ مؤدَّاه: أن العصر العلماني قد بلغ منتهاه، وأن العالم الأوروبي المعاصر دخل في واقعٍ جديدٍ لم يعد فيه الكلام على العلمانية بمعناها الكلاسيكي أمراً جائزاً.

بعد فرضية هابرماس القائلة «إن العالم الأوروبي بات يعيش في مجتمع بعد علماني» نُظِّمَت الكثير من المؤتمرات والمنتديات تمحورت حول جدوى الاستمرار في التنظير للعلمانية باعتبارها الحل الأمثل للمجتمعات الغربية المعاصرة. ففي الثالث والرابع من نيسان (أبريل) 2009 عقد مؤتمر في جامعة هارفرد تحت عنوان «استكشاف الما بعد علماني». وبعد سنة واحدة، أي في التاسع والعاشر من نيسان (أبريل) 2010، جرى عقد مؤتمر آخر في كلية العلوم الدينية في جامعة واشنطن سانت لويس (ميسوري) تحت عنوان «النقاش حول العلمانية في عالم ما بعد علماني»، هذا بالاضافة إلى مؤتمر ثالث انعقد في جامعة بولونيا بعنوان «السياسة والثقافة في المجتمع الما بعد علماني» بتاريخ 12-13 أيار (مايو) 2011.

في خلال المؤتمرات المذكورة لم يقتصر النقاش على الجانب الاصطلاحي كما هو الشائع في منهج عمل المدوَّنات المعجمية. فلقد جرت متاخمة ما بعد العلمانية تبعاً لظهوراتها وتداعياتها الفكرية والسوسيولوجية في عدد من المجتمعات العلمانية الحديثة في أوروبا والأميركيتين. ولأننا لم نجد سوى الندرة من المطالعات المعاصرة حيال تلك الظهورات فقد يكون من الضروري استقراء ظاهرة ما بعد العلمانية من خمس زوايا:

الأولى: تعرض إلى ما تقدّم به عدد من علماء الاجتماع من مقترحات وتصورات لتعريف المفهوم، ولا سيما لجهة التأصيل اللغوي والاصطلاحي، وطبيعة المساجلات الدائرة حوله بين النخب الغربية.

الثانية: تتناول رابطة النَّسَبِ السُلالي بين العلمانية وما بعد العلمانية.

الثالثة: تتحرَّى ما يمكن وصفه بـ «الثنائيّة الضديّة» بين العلمنة والدين. إذ لم يكن للعلمانية أن تتحول إلى سلطةٍ تاريخيّةٍ صارمةٍ، لو لم تجعل من الدين نقيضاً وجودياً لها. وعليه يستحيل الكلام على العلمنة في التجربة التاريخية لحداثة الغرب بمعزلٍ عن حاضريّة الدين، بالتالي فإن الحديث اليوم عن عودته كمنظومة قيمٍ إيمانيةٍ ومجتمعيةٍ إنما يعكس مكانته الجوهرية في إعادة تشكيل الحضارة المعاصرة.

الرابعة: معاينة اختبارات ما بعد العلمانية في المجتمعات الغربية، ولا سيما في أوروبا والأميركيتين حيث شهدت هاتين القارتين انتقالات شديدة التعقيد والتداخل بين القيم الدينية وقيم العلمنة.

الخامسة: متاخمة المفهوم بعين النقد. ولأن فكرة ما بعد العلمانيّة لمّا تزل بعد في طور التكوين، فإن الإسهام النقدي حول هذه القضية الإشكالية، تفترضه ضرورات معرفيّة وحضاريّة لا تنحصر مقاصدها بمجرد تظهير الفكرة، وإنما أيضاً وأساساً في تعيين التحديات الفكرية المفترضة وأثرها على مجتمعاتنا العربية والإسلامية راهناً وآتياً.

 

تعليق عبر الفيس بوك