تضامن الإعلام

 

غسان الشهابي

لا أمانع أن أشاهد فيلماً جيداً أكثر من مرَّة، فأحياناً يكون ذلك نوع من الطقوس الاجتماعية، ومن هذه الأفلام فيلم "ذا بوست" (إنتاج 2017) الذي يتحدث عن صحيفة واشنطن بوست التي حصلت على تقارير سرية مُسربة من وزارة الدفاع الأمريكية تخص الحرب على فيتنام في أوائل السبعينات، وكانت التقارير تقول إنَّ الحكومة الأمريكية متأكدة من عدم قدرتها على الاستمرار في خوض الحرب والفوز بها، ومع ذلك مستمرة في إرسال الجنود أفواجاً أفواجاً.

العبرة في هذا الفيلم تأتي عندما تنشر الصحيفة هذه التقارير على "الأمة" وتعرّض نفسها لإمكانية صدور حكم قضائي عليها قد يفلسها ويغلقها إلى الأبد ويضيع مستقبل العاملين فيها، سواء كانوا بالعشرات أو المئات، فما كان من الصحف الأخرى المنافسة، سواء داخل الولاية أو على مستوى البلاد، والكبرى خصوصاً، إلا أن فتحت الملف نفسه، وبدأت تسأل وتسائل وتستفهم ما إن كان ما كتبته "واشنطن بوست" صحيحاً أم لا؟ وتطلب شرحاً من الحكومة عن المعلومات التي وردت في تلك الصحيفة... هذا التضامن فقط هو ما جعل السياسيين يتراجعون خطوات إلى الوراء، ويدركون أنهم إزاء الإعلام كله، الصحافة كلها، فما استطاعوا أن ينفردوا بصحيفة واحدة ليفتكوا بها، وتذهب طيّ النسيان، وما استطاعوا أن يقاضوا جميع الصحف ويخرسوها!

هذا الموقف أحالني إلى الكثير من الحالات التي تضيّق فيها السلطات العربية الخناق على إحدى الصحف في الأساس، أو موقع إلكتروني، أو كاتب، فلا يكون من الصحف ووسائل الإعلام المنافسة إلا السلبية المطلقة إزاء الحدث، أو النقل البارد للأخبار الرسمية عن التدابير المتخذة في حق "المارقين" على إعلام الدولة، بينما تتبرع الوسائل الأقرب إلى السلطة، أو التي تظن نفسها قريبة بما فيه الكفاية، بزيادة النار حطباً، بفتح ملفات المُخالفات لتلك الصحيفة. وتأتي هذه المواقف تبعاً إما للخوف من تعرّض الوسائل لما تعرضت له زميلتهم المؤسسة، أو زملائهم الأفراد، وإما طمعاً في إثبات الولاء، وإما للتخلص من "منافس" على أمل أن يزداد نصيبها في كعكة الإعلان والتوزيع عندما يخرج هذا اللاعب من السباق.

ما لا تدركه الوسائل المشابهة في الطمع أو الشماتة أو في الخوف أو البرود أو اللامبالاة، إنه كلما قلّ الإعلاميون القائمون بمهنتهم حقّ القيام، كلما سهل التخلص منهم جميعاً، وتم التطويح بمؤسساتهم، ولوكها تحت أسنان السلطات المختلفة حتى لا يعود لها طعم ولا نكهة، فيسهل حينذاك بصقها، ولن يوجد من يتحسّر عليها!