خطواتٌ مُبعثَرة

 

نهى الطرانيسي| الدوحة

 

تزامن وصولي لعيادتي مع تأهب الشمس بالاتجاه نحو الغرب. لا حاجة لارتداء البالطو الأبيض، فقط عملي ينحصر بين عقلٍ منتبه حاضر أثناء المناقشة والإنصات، وقلمٍ يخط ملاحظاتي. أما النفس فأُغلق عليها المنزل قبل الذهاب لعيادتي، حيث لا مكان للعاطفة.

يبدو رواد عيادتي قليلين، لكنهم يستهلكون مني الكثير، أشعر كل يوم معهم بالجديد، من تقدم منهم في الشفاء ومن انتكس وعاد لنقطة الصفر.

تقدمَ بخطوات ثقال دالفًا العيادة، محدّثًا نفسه: لا أعلم إن كان القرار صحيحا أم خاطئا...جلس منتظرا أن تتهيّأ الطبيبة لمقابلته.

  • مرحبا... كيف حالك؟
  • ....................
  • لاحظت عدم استكمال بياناتك كالاسم كاملا... أرقام التواصل ومحل السكن... لا بأس سنتركها لاحقا.
  • .......................
  • لن يجدي الصمت، إذا أردت الشفاء فعليك بالكلام، وأنا هنا لأساعدك، حسنا لنبدأ بأحلامك، صِفْها لي؟
  • (بوجه هادئ مجهد) قبل الاسترسال في أسئلة التشخيص، هل لي بفنجان قهوة؟ فليس مجيئي لعلة ألمّت بي، فقط أريد الإفصاح عما بداخلي، فلا أحد يسمعني، ولا أحد أطمئن إليه فأفضي إليه بأسراري.
  •  كلي آذان صاغية!
  • لا ترمقيني بنظرات تملؤها الريبة في قدراتي الذهنية، وكأني مريض بالفصام يفتعل معك شخصيات متواترة، أو مريض بالذهان يخشى من سراب يراه هو فقط.
  • تفضل قهوتك، ولنبدأ... أين تسكن؟
  • (أخذَ نفَسًا عميقًا مع رشفة من القهوة) أسكن بإحدى المباني الفندقية القديمة التي يخالف اسمها واقعها؛ لوكاندة السعادة! ليس من اسمها نصيبا... لا تُدَوِّني العنوان فهو ليس ما ذكرته لك، فقد أكسبتني سنوات التَّخَفّي دهاء وحيطة وشكًّا في أصابع يدي قبل أصابع أيدي المحيطين.
  • لمَ التخفي؟! أتهرب من ذكرى أو مشكلة؟! وضّح أكثر.
  • نعم! أهرب من ثأر ليس لي يد فيه، ولكنه إرث نتوارثه... أتعلمين! حلمت ورأيت أمامي عروسًا كما أتخيل أوصافها دائمًا، تُزهر داخل أحشائها زهرة يانعة تأخذ عطر والدتها، وتجوب به أرجاء المنزل، فلا أكاد تفرق بين حُسْنَيما، كلما تراءى أمامي ظل لطفل بجلباب أبيض يطرق الباب أفزع وأطوف قياما، لن أتمنى الولد حتى لا أورثه قلقي وشتاتي وأحشره معي في كهوف الحياة المظلمة التي لا لا تدري أأنت فيها حي أم أنك تستعد للموت؟
  • (تغيّر الطبيبة عن جِلستها بالوقوف لحظات، وتعود بقرص دواء وماء)
  • ما هذا؟!
  • مجرد مهدئ.. لتستطيع استكمال الجلسة.
  • لست في حاجة إليه! فما جعلني سنوات متماسكا أقدَرُ على جعلي أستكمل الحديث!!... كنت أفضلَ حالاً مع نضوج وارتقاء علمي ومعرفيّ، حتى إنني كنت أسير مزهوًّا بعقلي الكبير وحالة العلم التي تملؤني، وشغفت بتلك الحالة حتى أشفقت على نفسي بعدها، فرأيتها معركة خاسرة بين عقلي الكبير وأشجار عتيقة من العادات والتقاليد ارتوت على الدماء، وما زالت تُسقى وتكبر حتى تجاوزت حجم عقلي الكبير.
  • رجاءً اهدأ للحظات.... حاول أخْذَ أنفاس عميقة.. حتى يخف اضطرابك ويهدأ احمرار وجهك....
  • (صدر يعلو ويهبط.... دموع تنحدر على جانبي الوجه.. نصف نائم على أريكة)
  • أأنت أفضل الآن؟
  • ..............
  •  ابحَثْ عن مكان جديد غير مألوف، وابدأ به حياتك.
  • أظن أن القطران المستخدم لرصف الطرق يختلف من حي لآخر.
  • (تنظر إليه باستغراب شديد)
  • تنقَّلْتُ كثيرا، ومن كثرة نكوص رأسي وأنا أسير مطأطِئَها، أصبحت أعشق الأرضيات، وأميز بين ألوانها القريبة من بعضها بعضًا، حتى رصف الطرق تميزه عيناي، فيختلف إن كان لطريق بمنطقة شعبية أم منطقة راقية كالتي أنتِ فيها الآن.
  • هل ستظل تلهث وراء شرود أقدامك، ولا تدري أين المستقر؟
  • (يتناول ما بقي من القهوة ويدير ثُمالتَها على جوانب الفنجان) تلك الإجابة التي أنتظرها حتى أهدأ وأستقر سواء هنا أم في العالم الآخر... فكرة الموت والانتهاء بداية كانت تفزعني، كان يفزعني أن المرء سينتهي ولا يستطيع العودة لتصحيح أخطائه أو التمادي في سعادته الدنيوية المحدودة!! أليس مخيفا مثلما يُقال  game overدون أن يكون هناك مرح يعقب تلك النهاية؟!
  • (تاركة دفتر الملاحظات) والآن لا تخشاه؟
  • وُئِدت الحياة داخلي قبل أن أغمض عينيّ تحت تل من الرمال، نصف حي أم نصف ميت كلاهما إنسان ناقص. من ينتظر الموت هل يشعر بالحياة؟! آخر يهْرَع خلفي يريد أَخْذ أنفاسي بيده حتى يخلع عن ظهره وشم العار والندامة، وأنا أرجو خوض تجربة الحياة يوما ما.
  • ما زلتَ تدير الفنجان!!
  • (يقلب الفنجان على حامله ويتركه يستقر...) ليس لي دراية في علم قراءة الفنجان، ولكن أبني قراءاتي على خطوطه المتعرجة، إنها فنّ مرسوم ذاتيا دون مساس من أحد.
  • (تعيد فتح الدفتر) ما هي قراءتك له الآن؟
  • (مبتسما) أرى أني لن أعود في الجلسة القادمة.. فقد ماتت الكلمات، ولا جديد يقال!! ولا أدري أين سأصبح غدا؟!

مد يده مصافحا إياها بامتنان مع نظرة مودع، بعد مغادرته تُمسِكُ الطبيبة بالفنجان وتتأمل التعرجات والفواصل البيضاء بين البُنّ المتبقي... تشرد مع لمعان عينيها خلف ستار مائي!!

 

تعليق عبر الفيس بوك