الكسب.. سلوكا وممارسة!

 

 

"أمّا الاخلاق فهي سرّ حياة الأمم"..

علي الطنطاوي،،

 

يوسف عوض العازمي

 

كان الناس قديما في الجزيرة العربية قبل وجود الدولة والقانون، يتنافسون على كسب الغنائم لأجل البقاء والعيش ومحاربة الجوع، ولم يكن هذا التنافس يتكئ على قانون أو عرف أو لوائح منظمة، بل كان الوضع أقرب للفوضى، والقوي يأكل الضعيف، وكان مفهوم الوضع يعتمد على القوة، والحيلة وأية وسيلة ممكنة لتحقيق الكسب المطلوب، وبالطبع لا تسأل عن دين أو رادع قانوني أو ما إلى ذلك، بل كانت القوة هي الرادع وهي القانون الحقيقي.. (لا شك توجد نماذج مشرفة وإيجابية إنما أتحدث عن الوضع بشكل عام).

كانت الأوضاع حينذاك مزرية والمعيشة صعبة في ظل بيئة صحراوية قاحلة وطاردة، ومنذ صدر الإسلام كانت الجغرافيا السياسية للجزيرة العربية تضم خمسة أقاليم رئيسية (4 أقاليم + أقليم جامد) هي اليمن، الحجاز، عمان، البحرين، أمّا أقليم نجد فكان يعتبره المؤرخون بأنّه إقليم جامد بسبب الجفاف والبيئة الطاردة، وكان العرب منذ ذاك الوقت يغادرون اليمن باتجاه العراق والشام حيث المعيشة الأفضل والموارد المتاحة، واستمر هذا الوضع أي الهجرات من الجزيرة إلى شمالها حتى وقت قريب قبل تكون الدول المعاصرة، فقد عرف العقيلات وغيرهم من المهاجرين وأهل القوافل المتنقلة بالأرزاق وتجارتها، حتى أني كنت أسمع إلى وقت قريب مثلا دارجا يقول: الشام شامك.. لا من الدهر ضامك.

وحتى وقت قريب تاريخيًا وقبل ظهور الدولة الحديثة كان الافتخار والعزة لمن يقتل أكثر ويغزو أكثر ويسرق أكثر، وكانت بحسب ذاك الوقت مسميات وصفات لتلك الممارسات، فقد وصف الفاعلين بأبطال وتمّ تخليد ذكر الكثير منهم، بل ويتم اعتبارهم قدوة!

وكانت المفاهيم الخاطئة مسيطرة على الجزيرة كلها، كان القوي يأكل الضعيف، ولا رحمة بين الناس ولاغنى إلا بسلب الآخرين، نتيجة المعيشة الصعبة والفقر الشديد والبيئة التي لا إنتاج ولا عمل بها، وكذلك ضعف الدين خاصة في الفترات ما قبل ظهور الدولة، وقد نرى في تلك الأسباب عذرا، لكن منذ قدوم الملك عبدالعزيز ببدايات القرن الماضي، بدأت كثير من الظواهر بالاختفاء، نتيجة سطوة الدولة، وقوة الحكم، وبعدها تغيّرت أمور كثيرة للأفضل في ظل الدولة الحديثة ذات القوانين الرادعة المنظمة لحياة الناس وأوضاعهم، وكذلك توفر الوظائف وتغيّر الحالة الاقتصادية لجموع من المواطنين مما ساهم في تحسن أحوال كثيرة، يجرنا ذلك لتذكر مثل كثيرا ما نسمعه وهو "الجوع كافر" !

ومن مسميات غنائم الغزو في تلك الفترة التاريخية المظلمة هو مسمى الكسب وهو مسمى يستند على أنّ أي شيء من غنائم هو كسب مشروع؛ ولا يهم كيف تمّ أخذ هذا الكسب بحلال أو حرام أو حتى قتل نفس بريئة حرّم الله قتلها إلا بالحق، وكان النّاس يعتبرون الكاسب هو الزعيم والشيخ والبطل المغوار، وكانت تدبج في الكاسب المدائح والقصائد التي تخلد ذكره.

ما سبق هو الوضع قبل الدولة الحديثة، لكننا في عصرنا الحالي رأينا الكسب وإنما بشكل حضاري؛ على طريقة السرقات المليونية وربما المليارية، لكن بالقانون ووفق اللوائح!

وكذلك الكسب على طريقة "من صادها عشا عياله" وذلك عندما يتسلّم قيادي كبير جهة عامة أو خاصة ثم يبدأ بتجاوز اللوائح في تعيينات المناصب، ويتعدى أصحاب الحق بالترقية والحصول على منصب، وحتى في ترسية المناقصات، وحتى في تجاوز النظم الإدارية في سبيل تحقيق مصالح ضيقة!

المفهوم والشكل والموضوع واحد، لكن الوسيلة مختلفة، وهنا الإشكالية التي تدخل مناحي عديدة، ولو تفكر قليلا ستجد أنّ مفهوم الكسب ينطبق على كل من لا يحلل ولا يحرم في الحق والباطل، ومن يستغل منصبه فهو أقرب للحرام؛ لأنّ المنصب مسؤولية، وفي ذمة المسؤول؛ فإن تهاون وتجاوز فهو قبل أن يتعدى القانون تعدى شريعة العدل.

لا تقنعني بأنّ المتجاوز تجاوز لأنّ غيره تجاوز، فالطريق للحق واحد وليس اثنين، لا تتخذ غيرك عذرا، ربّ العالمين يوم القيامة سيحاسبك أنت بذنبك أنت وليس بذنب غيرك، والله سبحانه وتعالى كان واضحا في الآية 14 من سورة فاطر "ولا تزرُ وازرة وزْرَ أخْرى".. أي أن الخطأ مسؤولية من قام به وهو بكامل وعيه.