شموخ وطن وعزة إنسان

 

حميد بن مسلم السعيدي

يقف جلالة السلطان قابوس بن سعيد بعد مضي تسعة وأربعين عاماً من عمر النهضة العُمانية الحديثة، ينظر إلى دولة حديثة مُكتملة الأركان شامخة على امتداد أراضيها، كشموخ رؤوس الجبال في أقصى الشمال، وكرسوخ جبال الحجر الممتدة في العمق العُماني، إلى جبال ظفار حامية الجنوب الصامدة في مواجهة رياح المحيط، يرفرف العلم العماني مرفوعاً عالياً يزينه الخنجر رمز القوة في استلاله، ورمز السلام في غمدهِ، هذه هي عمان التي أرادها جلالته ترسم ملحمة وطنية مترسخة في الكيان العالمي، تعطي رمزية للنجاح والكفاح الوطني الذي أمتد طوال تلك السنوات التي لم تكن سهلة المراس، وإنما قامت على جهود وطنية مضنية عمل الجميع بواجبه الوطني، فعملوا بإخلاص وأمانة من أجل أن ترتقي عمان سلم الدول المتقدمة.

 فاستطاع جلالته أن يحقق الوعد الذي قدمه للشعب "سأعمل بأسرع ما يُمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سُّعَدَاءِ لمستقبل أفضل" في خطاب تاريخي أثبت أنه قادر على تحقيقه في نقل عُمان من مرحلة كانت صعبة على الإنسان العُماني إلى مرحلة جديدة ينعم فيها المواطن بخيرات هذا الوطن، فيجد نفسه أمام دولة حديثة استطاع من خلال ذلك الوعد أن يحقق الشراكة في بناء الإنسان، فأصبح المواطن شريكاً فاعلاً في النهضة العُمانية "وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب."، حيث كان الهدف الأساسي هو الاهتمام بالمواطن العُماني والعمل على تنمية قدراته المختلفة ليتمكن من القيام بواجبه في خدمة الوطن، "إن بناء الإنسان العماني وتكوين شخصيته المتكاملة، وتعليمه وتثقيفه، وصقله وتدريبه، هو في مقدمة الأهداف النبيلة، والغايات الجليلة التي نسعى دائما وأبدا إلى تحقيقها" وكانت هذه الغاية التي سعت الحكومة إلى تحقيقها في بداية النهضة، لذا لا ريب أن نجد المواطن قائماً بدروه الوطني في العمل بكافة القطاعات، بل أصبح هو المخطط والمنفذ للمشاريع الوطنية التي أصبحت جزءا من الدولة الحديثة، فرؤية جلالته في بناء الإنسان قد تحققت في ظل توافر كافة الاحتياجات الأساسية التي تُمكن المواطن من العيش الكريم.

لم يكتفِ بذلك بل كان من أولويات سياسة جلالته الداخلية بناء الشخصية العُمانية لتعبر عن مكنونات الحضارة العُمانية، وطبيعة هذه الشخصية في التعامل مع الشعوب والحضارات المُختلفة من خلال تبني منهج إنساني ثابت لا تغيره العوامل والمستجدات العالمية، مقتبسة من الحضارة العُمانية منطلقات في بناء شخصيته، واليوم يجني الوطن ثمار هذا البناء على مستوى العلاقات الرسمية والشعبية، فالمواطن العُماني أين ما ذهب هو محل قبول من كافة دول العالم، يعتمد في بناء علاقاته على التسامح واحترام الشعوب الأخرى لذا فنحن فخورون بما يمكننا من التواصل الحضاري، فأصبحت العمانية منتجا عالميا مميزاً، لذا فنحن نحقق تلك الإنجازات الخارجية منطلقين من المدرسة السلطانية بما تحويه من مبادئ وقيم نتمسك بها  "كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى"، هذا العمق التاريخي العظيم يتجلى في إنجازات خارجية يستشعرها كل مواطن، مما يدفعه إلى مزيد من الانتماء والولاء لهذا الوطن، ويوجهه في الإخلاص والأمانة والعطاء لأجله.

فقد ارتبط هذا التوجه بالدور الخارجي العماني، فقد بدأت توجهات بناء الدولة العمانية من منطلقات أساسية منذ عهد النهضة العمانية "أريد أن أنظر لخارطة العالم ولا أجد دولة لا تقيم علاقات صداقة معنا"، لذا فإنَّ عمان ترتبط بعلاقات صداقة مع كافة دول العالم، بل أصبحت من الدول التي تسعى إلى رعاية وتحقيق السلام العالمي، متخذة من الفكر السامي مسارا لها "إنّ سياستنا الخارجية معلومة للجميع فنحن دائمًا إلى جانب الحق والعدالة والصداقة والسلام وندعو إلى التعايش السلمي بين الأمم وإلى التفاهم بين الحضارات"، حيث أصبحت عمان وجهة الباحثين عن السلام والراغبين في الخروج من الأزمات السياسية والعسكرية، نتيجة لما تتميز بها عمان من حيادية في التعامل، حيث تحظى بثقة العالم على ما تمتلكه من سياسية خارجية ثابتة لا تتغير، مما منحها الريادة في قيادة العالم نحو تحقيق السلام، منطلقة من الركائز الأساسية للعلاقات الخارجية "إنّ سياستنا الخارجية تقوم على الخطوط العريضة الآتية: انتهاج سياسة حسن الجوار مع جيراننا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة؛ وتدعيم علاقتنا مع الدول العربية وإقامة علاقات ودية مع دول العالم؛ الوقوف بجانب القضايا العربية في المجالات الدولية" فهذه السياسية العمانية الثابتة كان لها دور في علاقات عمان مع دول الخليج العربي، ومع العالم العربي والإسلامي والعالم منطلقة من ثوابت تقوم على بناء الثقة بين عمان ودول العالم، لذا ظلت بوابة للباحثين عن السلام، ويقول الرئيس الأمريكي جيمي كارتر "إننا نعتبر جلالته مصباحاً منيراً لمحبي السلام".، حيث كانت عمان رمزاً واضح المعاني ذات دلالة لا يفهم سياستها إلا من يمتلك الحكمة.

فقد انطلقت عمان كدولة حديثة تحقق التوزان في البناء الداخلي والخارجي لها انطلاقاً من الأهداف السامية والتوجهات النبيلة والغايات الوطنية التي صاغها جلالة السلطان قابوس، حيث إنها ثمار ذلك الفكر السلطاني الذي انبثق من رؤية حكيمة مبنية على منطلقات حضارية لاستكمال دولة عظيمة امتدت عبر التاريخ، تستكمل طريق بنائها عابرة نحو موانئ التقدم والتطور، تعتمد على أيادٍ وطنية أقسمت باسم الله والوطن والسلطان على القيام بواجبها، في احتفال الوطن بالثامن عشر من نوفمبر المجيد، فإن جميع المواطنين يجددون هذا القسم العظيم من أجل أن تحقق الرؤية السلطانية في بناء عمان، تلك الدولة التي أرداها جلالته في بداية النهضة، "وقد أتى هذا النهج بحمد الله ثماره الطيبة فأصبح لهذا الوطن مكانته المرموقة على امتداد الساحة الدولية".