سرديات قرآنية (2-2)

محمد علي العوض

 

... ويحدث في بعض قصص القرآن أن ينكشف سر المفاجآت للمشاهد أو المتلقي؛ في حين يتم حجبه عن فواعل وشخصيات القصة، ويكون المتلقي هنا على دراية تامة بكل ما يجري للشخصيات، ويتيح أسلوب العرض هذا للمتلقي أن يسخر من فواعل القصة طيلة مدة القص أو المشاهد المعروضة فيها. ومثال لذلك قصة أصحاب الجنة في سورة القلم، فبينما كان المتلقي على دراية تامة بالأحداث التي جرت في جنتهم وما أصابها كما وضح خلال الآية (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم)، كان أصحاب الجنة يجهلون ما حدث، ولم يعوا الأمر إلا في الصباح الباكر عندما (تنادوا مصبحين) (أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين) أي عليكم بالإبكار والغدو إن كنتم تريدون صرم الثمار أي جذها وجنيها قبل مجيء المساكين وانتشار الناس (فانطلقوا وهم يتخافتون) وحرضوا بعضهم بعضا: (أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين).. لكن عند ولوجهم الجنّة تفاجأوا بأمر عجب؛ وإذ جدوها بلقعا خرابا، فكادت الحيرة والدهشة تخطف أرواحهم، وهنا تكشف لهم السر الذي سبقهم إليه المتلقي؛ فتداعى بعدها مشهد الندامة والاعتراف بالخطأ (...إنّا لضالون).. ثم يلي ذلك تصوير بديع لتراتبية الأحداث وتماهيها مع تصاعد الحالة النفسية والإنسانية، حيث يصوّر القرآن بعد مشهد الندم مشهدا آخر حركته الأساسية تبادل إلقاء الملامة بينهم وكيف (... أقبل بعضهم على بعض يتلاومون).. ويتبدى التناسق الفني في تبادل المراكز والحالة الإنسانية وانتقال حالة الحرمان للفاعلين الأساسيين (بل نحن محرومون)..

من أساليب المفاجأة في القص القرآني أيضا أن يطلع المتلقي على طرف من السر بينما يتم إخفاء ذلك عن الفاعل الرئيس في بعض المواطن، ثم يختفي مرة أخرى عن كلا الطرفين (المتلقي/الفاعل) في بعض مواضع القصة الواحدة، ويتمثل ذلك في قصة بلقيس في سورة النمل، حيث علم المتلقي/ القارئ أنّ عرش بلقيس الذي طالب به سيدنا سليمان آمرا: (... يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) سيأتي في غمضة عين (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) في وقت كانت فيه بلقيس تجهل ما علم به المتلقي مسبقا (قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون، فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو) ولتتكشف لنا ولها "معا" مفاجأة الصرح الممرد من قوارير في وقت واحد (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)..

لكنّ جماليات الحبكة وروعتها تتجلى في أن درجة مفاجأتنا أخف وطأة من درجة مفاجأتها، فنحن نعلم أنه ليس لجة؛ لأنّ الملفوظ السردي يقول "حسبته لجة"، لكن كنا مثلها في عدم معرفتنا بأنّ الصرح ممرد من قوارير؛ فلذلك شاركناها في هذه المفاجأة.

ثمة أسلوب سردي آخر في القص الفرقاني وهو الذي تواجه فيه المفاجأة الفاعل الرئيسي والمتلقي معا في زمان واحد، ويكتشفان سرها سويا في وقت واحد أيضا، كما في قصة أمنا مريم عليها السلام، حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، متخذة من دونهم حجابا حتى لا يراها أحد، فبينما هي في خلوة تامة؛ فوجئت هناك بالروح الأمين متمثلا في هيئة رجل.. يقول الله تعالى:(... فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا). لكن السر بدأت تتكشف ملامحه بمجرد أن تعوّذت منه بالله وقالت: (... إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) وعندها صارحها جبريل بالحقيقة كاملة، لترتفع عندنا حينها نسبة الأدرينالين ويزداد وقع المفاجأة حينما قال روح القدس: (.. إنّما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا).. إنها معجزة حمل فتاة لم يمسسها بشر مع كامل عفتها وطهرها.. ولم نكد نفق من وقع المفاجأة الأولى أو نستوعب مشهدها جيدا حتى يفاجئنا السرد بتوالي الأحداث وتراص الوحدات السردية ممتطية حرف "الفاء" الذي يفيد التعقيب (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة..) (فناداها من تحتها ألا تحزني..) (وهزي إليك بجذع النخلة) (فكلي واشربي وقري عينا..) (فقولي إني نذرت للرحمن صوما) (فأتت به قومها تحمله).. هذا التراص السردي البديع يوحي للمتلقي أنّ مدة حمل سيدنا عيسى عليه السلام كانت ضئيلة كما أورد ابن كثير عن ابن عباس (3/117) فالفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه أي بترتيبه المعهود كقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما).

ونلمح في قصة موسى مع العبد الصالح أسلوبية سردية أخرى وهي توظيف القرآن الكريم لتقنية "الإرهاص" أي التقدمة والتمهيد، والإرهاص كما وصفه "رولان بارت" بذرة تنضج، وتقنية تكشف روح القصة، وتمهد لتطورات أحداث السرد، وينبئ بالعقدة الفنية في القصة كاشفا عما يخبئه المستقبل، ويكثر أسلوب توظيف تقنية الإرهاص في عدد من القص القرآني كما في قصة سيدنا يوسف -على سبيل المثال لا الحصر- والتي يبدأ كر خيط السرد فيها بإرهاص متمثل في قول النبي يوسف (إنّي رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)، لذا دفع هذا الإرهاص سيدنا يعقوب الذي يعلم من الله ما لا نعلم لتحذير ولده حين قال له: (... يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا).. وبناء على هذا الإرهاص (العقدة) تنامت الأحداث الرئيسية في القصة لتفضي إلى بقية العقد الأخرى؛ مثل إلقاء سيدنا يوسف في غيابة الجب، ثم أسره، وفتنة زليخة، والسجن، وغيرها من العقد التي حفلت بها القصة.