شراهة دود الأوطان

 

غسان الشهابي

** كاتب بحريني

عاد العراق ليشتعل بعدما ظنوا أنَّ حراكه انطفأ، واستمرت ساحات لبنان بطوله وعرضه في حالة غليان، وإن كانت الحالة العراقية أكثر عنفاً، فإنَّ الحالة اللبنانية مرشحة إلى تصاعد المواجهة، وهذا يعني المزيد من الدم على الأسفلت مرشح ليندلق، وأرواح تتصاعد في هذين الحراكين اللذين لا يدري المرء أيهما يُتابع.

الحديث لا يقتصر على ما يحدث في لبنان والعراق، ولكن رجوعاً للكثير من الحراكات التي تمت في الوطن العربي أو في بلدان خارج هذا المُحيط سنجد أنَّ العنوان واحد تقريباً، وهو العضّ القاسي على ما ما يتبقى للناس من سُبل العيش. فالعراق يرى ويسمع ويشهد ويُعايش كل النهب والتزوير والفساد والظلم والمحسوبيات والتوزيعات الطائفية المُرعبة منذ حوالي خمسة عشر عاماً بعدما ظنّ الظانون أنَّ الأمور ستسير إلى الأفضل بعد انتهاء حكم البعث. لقد نهب سرّاق المال العام ما نهبوا، وصدق رسول الله (ص) إذ قال: "ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب"، فلم يعرف السُّراق متى يكتفون ويتوقفون، فتسابقوا كالدود في قضم القشرة، وواصلوا حفراً في جسم المقدرات وصولاً إلى اللب حيث ما يُقيم أود الناس، فلم توقفهم شراهتهم، واتخذوا في سبيل ذلك كل أشكال استحقار شعبهم وتحويله من شعب كريم عزيز إلى شعب فقير مُهلهل يقتات بعضه على المزابل!

كذلك الشعب اللبناني الذي عاش المُحاصصة الطائفية قبل اتفاق الطائف وبعده، الأمر لا يقتصر على السنوات الثلاثين الماضية، ولكنها تركة ثقيلة، كانت تدعو للأسى والتَّحسر، ولكنها استبشعت في السنوات الأخيرة، وزاد عليها استخفاف الطبقة الحاكمة بشعبهم الذي تمَّ العمل عليه بمنطق "فرّق تسُد"، ولكن القضم والعضّ في بلد فقير يتهاوى يكون أكثر إيلاماً، وصار الألم اللبناني عابراً للطوائف والانقسامات، إذ لم يبق ما يُعضّ عليه، فنزل الناس يتصدّون لعيشهم ومستقبلهم، وليقولوا معاً ما كانوا يهمسون به سراً، وليعّروا الطبقة الفاسدة من دون حماية أحد تحت ذرائع واهية ومُتهالكة تتمثل في الانتماء.

ولو استعرضنا الكثير من الحراكات – بما فيها "القمصان الصفر" – لوجدنا أنَّ الجانب المعيشي في المظاهرات هو الأساس، ومنه ينطلق المحتجون إلى الآليات التي أسست لتدهوره، وشرعنت لطبقات مُحددة بالمتاجرة فيه على حساب الطبقة العريضة من المُواطنين الذين لا يستهويهم العنف، ولا أجسادهم تطلب الضرب، ولا أرواحهم اشتاقت للموت، فكل ما في الأمر أن عضّ السارقين إن يشادد مع الناس رغيفهم الشحيح، فلا يّضمن سكوت الموجوعين.