ذاكرة أسيرة

 

إدريس حنبالي | فاس - المغرب

 

لحظتها؛  كان الزمن قد توقف.. يفصل بينهما واد لا يلحظ في مجراه ماء؛ ربما كان هناك ماء زلال يسير إلى غايته لكن؛ حتما بقدر لا يراه العابر من مكان بعيد.. لا شيء  في الجوار عدا جبال؛ وأشجار نخيل هرمة تصارع من أجل البقاء.

على كتف إحداهن جرة ماء؛ بينما تحمل أخرى على ظهرها شيء من حطب وفي ذمتها ناقة؛ ساقتها إلى جانبها آصرة صداقة أو فقط هي غريزة بقاء وحاجة إلى شربة ماء. لم يكن هناك تعب أو نصب يلوح على محيا الشابتين الحسناوين، لا قيظ، لا شظف عيش ولا قهر رجال.

 هناك شيء من حزن تراه في تقاسيم الجميلة الشقراء؛ ويبدو أنها تكاد لا تبالي؛ بما تحمله من طين عتيق يميل إلى السواد.. لحظات ثم تتردد بين ضلوعها أمواج عاتية وهي تولي شطر قبلتها؛ عائدة إلى البيت.. لكنها الآن تميل عليك  كمقاتلة  شرسة؛ صعبة المراس تأبى الهزيمة.. شيء ما يشدك إليها وكأنك تعرفها من زمن بعيد.. أهي  البشرة البيضاء؟..  أهي الحقيقة؛ حين تتجلى بارزة في كبد السماء؟ أهي الدنيا؛ لمّا تسوق لأصحابها عوضا عن سقط المتاع ركاما من ذهب؟.. أهي غواية ؟ أم هي حلم قديم بالسفر؟... ربما هو السهل  يستحيل ممتنعا؛ بينما نكتم بين أوجاعنا رغبة ابتسام.

هناك  تقف الأخرى وشعرها الغزير تحت المنديل يغرق في السواد؛ ترميك بنظر ثاقب كما بندقية.. حزينة على نحو ما كأنما تتبرّم، ينتابها شيء من حنق، مرارة إحباط أو انكسار؛  لكنها تبدو متأهبة أكثر تصميما من أي زمن مضى أو مرّ على جبال الأطلس الكبير والأصغر. بالجنوب الأدنى للمغرب كما هناك  بالشمال ألف حكاية و أسطورة .. يسجل مؤرخ روماني شهير  أنهم كانوا لدى مرورهم بهذه الجبال المقفرة نهارا؛ تصل إلى مسامعهم أهازيج وزغاريد و قرع طبول، ولم يكن لهم بدّ من التغاضي الذي يفضي بهم في نهاية الأمر  إلى الاعتياد.. جبال تتّشح بحزن كأنه الرماد.

يهمس إليه وقد ذبلت مقلتاه من الكرى: الشقراء قوية و غير عابئة بما يجري هنا أو هناك في هذا العالم؛ أما ما يجعلك تتهيّب  الحوراء؛ فهو حزن في عينيها يشبه الطوفان.. كفى يا هذا؛ يسرّ إليه: يكاد البحر يذهب بلبك إذ تلبث تحصي عند قدميه كل ليلة أفراحك  القليلة.. وقبلها لمّا أدلجت إليه؛ كطفل  يحضن ملابس العيد؛  لم تنم على متن السيارة  غير لحظة؛  أو ربما دقيقة.. لابد لك أن تنصاع الآن لتعانق أحلامك  الأثيرة.

كان  في الواقع فراشا متوسط الحال؛ متشنجا على نحو ما كظهر مسنّ مدمن للرّياضة.. تمرّ بخلده أوّل مرة يكتشف جمال هذه البقعة الوديعة حين آوى إلى ركنه ليلا؛ وقد كانت أخذته دهشة لما وجده من أثاث خشبي عتيق؛ صمّمته يد صانع خبيرة من أجود أخشاب غابات الألب أو البيريني.. رجح أن تكون صناعة أوربية تمتدّ إلى سنوات الخمسينات أوالستينات من القرن المنصرم.. وإذا بشيء يطبق عليه كما الغرفة كأنما الإعصار.. علا صراخه في بهو المنزل وفي غرف أخرى كان قد آوى إليها رفاقه في الرحلة.. كان قد صفع الباب مرات و مرات؛ قبل أن يدركوه عند الباب وكأنما ناولوه طوق نجاة، وكان منهم أن عجبوا لأمره حين عاد يصرّ على اقتراف ذات جرمه تارة أخرى.

 وكأنه شوط آخر من حكاية لا تنتهي.. لقد نشأ هذا الحي على ربوة  كأنما بها شوق يهوي بها شيئا فشيئا إلى البحر ليقرئه السلام.. سكينة يجد حلاوتها، وسحر يلامس قلبه كلّما وصل إلى هذه المدينة الفاتنة؛  كالخدر الناعم يأوي إليه البحر الأبيض كلّما خيم الظلام.

عاد الآن ليتذكر كيف كانت ترنو إليه الحسناء الشقراء بشعر يتشح بمنديل  تنكسر عند حافاته خيوط كأنما السنابل كما اخترقته نظرة أخرى من الأميرة الحوراء.. كأنهما علمتا حلوله هنا من جديد.. وصلت إلى مسامعه جلبة ترافق عادة استقبال ضيوف فوق العادة.. شيء من زقزقة أطفال الجبل؛ وكلمات مفعمة بالرقة وشيء من تعب السفر..

ثمّة ما يجعله ينتمي لهذه اللوحة البديعة.. شيء منها ينفذ من خلال البصر، يتسلل إلى الروح؛ أو ربّما  قبس من بصيرة.. لا يعدو الأمر أن يكون كما يخطر له ولعه بالتجوال لأجل اقتناص بعض الصور؛ وكلما عاد ليحتفي بما علقت في ذاكرته من سعادة ذاك السفر، يذكر كم كان البحر ليلتها حزينا وهو يتلو آيات الوداع، تعاوده حسرة لذيذة تنتابه الآن كلما تذكّر..

لقد نسي أن يأسر هذا السحر كما أسره؛  نسي أن يخلد هذا الجمال في صورة  لأجل الذكرى؛ ليته فعل.  ثم يعزي نفسه إذ يقطع لها وعدا بأن يقصد  ذات المنزل في أقرب فرصة ليعود إبانها مظفرا ترافقه المغانم؛ ثم أن الأمر كان يشبه العته لحظة امتدت يده إلى اللوحة و أجال فيها أشواقه قبل أن يجيل فيها نظره، ثم ما الذي دعاه أن ينزع عن ظهرها مسمارا معينا غير ما كان يلف إطارها من كل المسامير الصغيرة..؟ لبث لحظات يتأمل ما يقع عليه بصره من خلال ضياء ينفذ خلال الزجاج قبل أن يهب برباطة إلى الباب؛ وهدوء مصطنع.. لا شيء هناك؛ والعالم يغرق في صمت يشبه المقابر.

كلما خطرت له الذكرى؛ تسحره  كلمات متردّدة خجولة كأنما ترتكب المحظور:

  • ها قد دخلنا المنزل.

تعليق عبر الفيس بوك