د. راشد بن علي البلوشي
أستاذ اللغويات المشارك
جامعة السلطان قابوس
استكمالاً لما ذكرناه في المقال السابق، أقول إنَّ علماء الأمة لجأوا إلى تبني منهج فقه المقاصد؛ بمعنى أن تطبيق الأحكام الشرعية أو تعطيلها يكون بناءً على المصلحة العامة للإسلام والمُسلمين. فمثلاً، إذا أسلمت امرأة متزوجة من كافر ولها منه أولاد، فإنَّ جمهور الفقهاء والعلماء يفتون بطلاقها منه إن رفض الدخول في الإسلام بعد دخولها فيه مباشرة (http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index، لكن مبادئ فقه المقاصد تقتضي بأن تبقى المرأة زوجةً للرجل غير المسلم، وذلك لسببين.
الأول هو أنَّ الحكم بطلاقها ربما يدفعها إلى العدول عن الدخول في الإسلام (أو الرِدة). والثاني هو أن بقاءها زوجة له ربما يغيّر من حاله هو، فيسلم على يديها لاحقاً، وربما يقود ذلك الأولاد لأنَّ يسلموا على يديها أيضاً. أما إذا اختارت الجهاد في سبيل الله بالفراق عن زوجها وأولادها فإنَّها قد تضيع فرصة إسلامهم، وكذلك ربما تعيش في تعاسة بعيداً عنهم، والدخول في الإسلام والسعادة في الدنيا على منهج الله من أهم مقاصد هذا الدين (فقه المقاصد: إناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها 202-210، للدكتور جاسر عودة).
ولمن يُشكك في الحاجة إلى الإبداع في المجال الإداري نقول لهم بأنه مُهم جداً، لأنَّ الإداري هو من يُدير شؤون ومصالح الإداريين الآخرين والأكاديميين والفنيين (والمواطنين والمراجعين وغيرهم) وعملهم وبذلك يتحكم في مدى رضاهم ودرجة إنتاجيتهم، وإذا لم يستجب الإداري لنداء الإبداع فإنِّه بذلك يعطل عجلة الإنتاج لجميع هذه القطاعات الأخرى. وليكن جلياً أنه ما مِن نجاح ولا تقدم ولا جودة إنتاج ترتجى من مؤسسة أكاديمية لا يُؤمن إدارييها على أعلى المستويات بالإبداع والتجديد في الإدارة، لأنه وباختصار، إذا كانت الإدارة عقيمة فإنَّ الإنتاجية الأكاديمية ستكون عقيمة كذلك وتكون نتائجها سلبية على الطلاب من حيث جودة التعليم والتدريب وكذلك من حيث غرس ثقافة الإتقان والإبداع والتجديد فيهم خلال فترة الدراسة وكذلك بعد الالتحاق بالعمل، والجميع يتفق بأن للحنكة الإدارية الدور الأكبر في استغلال طاقات الكادر الأكاديمي وتوجيهها لتحقيق الأهداف المنشودة للمؤسسة الأكاديمية، ولهذا فإننا نهيب بكل من تبوأ منصب "الإداري" أو"صانع القرار" في مؤسساتنا الأكاديمية أن يتخذوا الإبداع في الإدارة والتجديد في أساليب العمل منهجاً يؤمنون به ويطبقونه، وليس فقط مطلباً يفرضونه على الآخرين.
ولكن، وللأسف نجد البعض من الموظفين (عموماً) يركنون إلى الكسل، أو بالأحرى اللامبالاة، وهم يتفننون ويبدعون في الامتثال لثقافة "مشّي حالك" والتذرع بالقوانين المُختلفة (والتي نُكِنُّ كل احترام لها ولمن شرعها وكذلك لكل من فهم أن الغرض منها هو تحقيق مصالح الناس دون أن يؤثر ذلك على مصالح غيرهم أو يتعارض معها). وللأسف الشديد، فقد أصبحت هذه الثقافة الدخيلة (والتي تتعارض مع مفاهيم الإتقان والتجديد والإبداع) منهجاً للبعض، الذين يسعون بكل السبل لتوفير كل ما يستطيعون إليه سبيلاً من الوقت والجُهد والتفكير والإبداع الذي يجب أن يبذلوه للوظائف (المختلفة)، يوفرونه لأعمالهم الخاصة ونشاطاتهم خارج الوظيفة المكلفون بمراعاة مصالح الخلق فيها. ولا ندعو هنا إلى أن يبذل الموظف كل وقته وطاقته للوظيفة لأنه أيضاً مسؤول عن بدنه وعائلته وغير ذلك من الواجبات والاهتمامات، ولكن ندعوه لأن يُراقب اللهَ في ما أتمن عليه من أمور الناس وشؤونهم بالسعي إلى العمل على ما فيه مصلحتهم. وفي المقابل، يطالب الإداريون غيرهم من القطاعات الأخرى (الأكاديميين والفنيين وغيرهم) بالإبداع والابتكار.
وأختتمُ بالتأكيد على أهمية الإبداع في شتى مجالات الحياة من خلال التوضيح بأنه ممكن وضروري، حتى في الرياضة. فالإبداع، ببساطة، يتطلب أن يفكر المرء، ولو قليلاً، قبل البدء في التنفيذ. فها هو حارس منتخبنا الوطني الكابتن فايز الرشيدي يقدم أروع الأمثلة على الإبداع في حراسة المرمى. فعندما سُئل الرشيدي عن السبب في قدرته على صد ضربة الجزاء في الدقيقة 90 من المباراة النهائية لكأس الخليج العربي الأخيرة أمام المنتخب الإماراتي، قال إنه توقع أن يركل اللاعب الإماراتي الكرة على يمينه لأنه ركلها على يسار حارس مرمى المنتخب العراقي في مباراة الدور نصف النهائي. وعندما سُئل الرشيدي عن السبب في تمكنه من صد ركلة الترجيح الخامسة في نفس المباراة من نفس اللاعب الإماراتي، قال إنه توقع أن يركل اللاعب الكرة على يساره هذه المرة لأنه ركلها على يمينه عند تنفيذ ضربة الجزاء في الدقيقة 90. أي أنَّ الرشيدي أعمل عقله وفكر واجتهد ووفقه الله لما أراد. أي أنه لم يخمن بدون تفكير، وهو ما يقوم به معظم حراس المرمى في مثل هذه الحالة؛ حيث يعتمد معظمهم على طريقة المحاولة بنسبة خمسين بالمئة. ولذلك فإنَّ الهدف الأسمى من القوانين الوضعية يجب أن يكون مصلحة البشر (من دون إفراط أو تفريط)، ولذلك فإنه لا يجب التذرع بوجود القوانين عندما تتعارض مع مصالح البشر، أفراداً ومجتمعات.