"مدينة الله" لـ"حسن حميد" سرد يشدّ الأرض إلى السّماء(2- 5)

...
...
...

 

أ.د/ يوسف حطّيني| ناقد وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

 

ومن الأمثلة الأخرى لوصفه الأماكن المسيحية المقدسة يسرد فلاديمير مشاهداته عن زيارة كنيسة بيت لحم برفقة جو؛ حيث البوابة "واسعة، يحف بها عمودان من الرخام الصقيل، يعلوهما تاجان مشجّران، تتوسطهما أيقونتان كبيرتان، للسيد والسيدة، ومن خلف رأسيهما بدت هالتان من النور"، ص114، وحيث تحفّز الماديّات المرئية في الكنيسة الروح على الخشوع، فكلّ ما تراه فيها يحفز الإنسان على الصلاة طلبا للتطهّر: "أنت، وفي هذا المكان، كلما رأيت شيئاً صلّيت، إن رفعت رأسك إلى الأعلى تصلّي (1)، وإن التفتّ إلى يسار أو يمين تصلّي (2)، إن انحنيت صلّيت، لا كلام هنا سوى الصلاة، ولا رجاء هنا إلا بالصلاة"، ص116. وإذا مررت ببئر مريم، وقد اعتلتها مستديرة برجية من الآجر الأحمر، وأحاطت بها طاسات من الفضة والنحاس مشدودة إلى سلاسل فضية ونحاسية، شربتَ وصلّيت وشكرت: "راح الناس يتسابقون إليها ليشربوا من ماء البئر، ويصلّوا.. فتقدّمنا وشربنا وصليّنا ثم خرجنا"، ص117.

 

كما وصف السارد في طريقه إلى أريحا المغارة الزجاجية التي احتمى فيها أصحاب المسيح عليه السلام من المطر؛ حيث يحار المرء أين يدير بصره، "فهذه الحيطان فجوات ونوافذ، وأقواس صخرية شفيفة، ملأها الضوء بالحضور، إنها مرايا من الزجاج، نكاد نرى أنفسنا فيها بكل الوضوح والتجلّي"، ص140؛ إنها المغارة التي شهدت تجلياً من تجليات المسيح، حيث يعلّل الحوذي جو وجود الزجاج والضوء فيها، ويشرح ذلك لفلاديمير على النحو التالي: "بينما كانوا جلوساً يحتمون من المطر، أبرقت الدنيا، فاقتحم البرق المغارة، فرفع سيّدنا كفّه في الهواء كي يتأدب البرق، فأرجف، وتوقف، فملأ المكان بالضوء.. لهذا ترى المغارة على هذا النحو، صخورها كالزجاج، وحيطانها وأرضيتها كالزجاج، وصور من كانوا هنا مرسومة بالضوء على الزجاج"، ص141.

 

ولا تغيب صورة المقدّسات الإسلامية عن المشهد السردي، وتبرز صور المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة ومسجد إبراهيم الخليل ومساجد أخرى. وها هو ذا السارد، ومن ورائه المؤلف، يقدّم وصفاً شاعرياً لمسجد قبة الصخرة، فيقول: "ها أنذا أقف أمام قبة الصخرة، أمام المسجد الذي يحتشد الناس في جنباته الوسيعة، فأرى اللون الذهبي يكاد يسيل من القبة نحو الحيطان (...) أقترب أكثر من الحيطان فأرى المثلثات والمربعات والمستطيلات والمثمنات والدوائر وأنصاف الدوائر والمكعبات. كلها تصنع زينة الجنبات والنوافذ والشرفات، والحواف الدانية، تماشيها أسطر قرآنية تدور حول البناء دون أن تدوخ"، ص375.

 

ويبدو بجلاء أن حسن حميد كان مصرّاً على تأكيد فكرة التآخي الديني بين المسلمين والمسيحيين، لا بوصفه شعاراً، بل ممارسة يعيشها الناس، وتعيشها الأمكنة؛ حيث تتعانق المساجد والكنائس، على نحو الحال الذي تبدو فيه الكنيسة الأرثوذوكسية ومسجد إبراهيم الخليل في الخليل:

  • "أسأل الحوذي جو عن البناء فيقول: هذا هو مسجد النبي إبراهيم، والكنيسة الأرثوذوكسية، ويبدو من خلف البناء الضخم والبيوت البيض جبل عالٍ، لكأنه ذراع تحيط بالبلدة كي لا تنزلق بيوتها أكثر نحو الوادي العميق"، ص166.

 

  • "ترى القباب والمآذن، وقد ارتدت ألوانها الخضر، واحدة من المآذن قريبة جداً من الكنيسة التي غادرناها في الجهة المقابلة. لكأنّ المئذنة مثبتة فوق حائط الكنيسة، أو لكأن قبّة الكنيسة بصليبها النحاسي اللمّاع مثبتة فوق حائط المسجد مباشرة"، ص172.

ويبدو الكاتب مولعاً بالفضاء المفتوح الأليف، شأن كثير من الكتاب الفلسطينينن الذين تتوثب روحهم للحرية؛ فتكثر عنده الشوارع واليساتين والحقول والهضاب والجبال، وتقلّ عنده البيوت المغلقة والفنادق؛ فإذا وصف مكاناً مغلقاً فتحه على الطبيعة أو الذكريات أو التاريخ، فأعاد إليه الحياة. وفي مقابل المكان الأليف ينهض المكان المعادي كالمستوطنة والسجن الذي يبدو تعبيراً فجاً عن المغلق الذي لا يمكن فتحه، لأنه عنوان للموت. ولنا أن نتأمل إجابة سيلفا عن سؤال فلاديمير حول طبيعة الحياة في السجن؛ حيث أجابته: "هنا لا حياة، الحياة خارج هذا المكان"، ص151.

 

من هنا كان من الطبيعي أن تحضر الأسواق والأشجار، وأن تحضر البيوت التي تنفتح بفعل شرفاتها على المدى الأزرق، وأن تنفتح المقابر على أرواح حية تجعل من الشهداء طيوراً.

ويلفت نظر القارئ الطابع المشترك العام بين الأمكنة، فالأسواق تتشابه إلى حدّ كبير، من خلال باعتها الذين يؤثثون فيها شخصيات فلسطينية محببة، ترحّب بالضيوف والزبائن، لا فرق بين سوق الحصر وسوق النحاسين وسوق القطانين إلا بالسلع المعروضة، وكذلك تتشابه المقاهي الأليفة، وتبدو شخصية النادل نمطية، مع فروق فردية بين النادلين، ويمكن هنا أن نستعرض وصف مقهيين، يقدّم الكاتب في الأول وصفاً واقعياً لمكان مؤثث بالكراسي والطاولات، ويقدّم للثاني وصفاً يرقى باللغة إلى الشعرية:

  • "مقهى فيه بضعة كراسي، وبضع طاولات، ونادل ممصوص، نتأت عروق رقبته وساعديه، وقدميه. ينادونه (أبو العبد)، يدور بين الكراسي والطاولات مثل ساعي البريد"، ص42 

 

  • "لكأنه مغارة متدلية من خاصرة الرابية، نوافذ سقفية دائرية، وأخرى جانبية مستطيلة، وتشكيلات خشبية بديعة، وشموع، وأقفاص طيور معلّقة على الجدران، مقهى طويل مستطيل.. تتجاور طاولاته بحميمية غير عادية، طاولات من خشب عسليّ اللون تجاورها كراسي الخيزران الواطئة"، ص53. 

 

 

وتحضر الأشجار حضوراً بارزاً، أشجار الزيتون والخروب والبلوط، تتحدّى الاحتلال، وتثبت الهوية، ويمكن لنا أن نشير تمثيلاً إلى شجرة الأمنيات في الخليل، وهي شجرة بلوط كبيرة جداً، أغصانها تتجاوز البيوت إلى البيوت والدروب إلى الدروب، كما يقول الروائي، ويقال إن سيّدنا إبراهيم زرعها وباركها؛ حيث يأتي الناس إليها ويربطون خيطان الأمنيات على أغصانها، ويتمنون"، ويسأل فلاديمير الدليل غازي عن لوني الخيوط: الأخضر والأسود فيقول: "اللون الأسود يعبّر عن أمنيات طلب المغفرة ومحو الخطايا، واللون الأخضر يعبّر عن أمنيات طلب الرضا والتوفيق"، ص ص168ـ169.

 

أما البيوت فقد تتبعها السارد في أماكن مختلفة، في القدس وفي قرية الرامة وفي بيت لحم، كما نجد في السياقات الآتية، على التوالي:

  • "فالبيوت هنا أشبه بالدوالي عناقاً وتعريشاً وتآخياً وهمساً وجمالاً، وهي على الرغم من تطاولها دانية العناقيد، وطرية كالثمار، وذات رائحة تشبه رائحة الحناّء والزعفران"، ص11ـ12. 

 

  • "أرى البيوت تقترب أكثر كلما انحدرت العربة بنا أكثر، يقول الحوذي جو: أترى البيوت؟ قلت: إنها تضيء. قلتُ: منذ أن دخلها سيدنا، وهي تضيء"، ص31. 
  • "ها هي بيوت بيت لحم، تبدو، وها هي أشجار الزيتون تأخذ بأيدينا شجرة شجرة من أول الدرب إلى أعلى السفح، بيوت طابقية لونها أبيض نداه مثل أمواج البحر، بيوت تسيل من أعلى التلال إلى أول المنحدر.. لكأنها قطعت كل المسافة من ذلك العلو إلى هذا المنحدر كي ترحّب بنا"، ص108.

 

ومن غير شك فإن الأمكنة لا تتحقق إلا باختراق الأبطال لها، غير أننا هنا نؤجل الحديث عن سكان البيوت، لأسباب منهجية، وننتقل إلى التقاط صورة المخيمات في الرواية، وصورة مخيم شعفاط مجرد مثال على كل المخيمات الفلسطينية التي استقرت على أطراف المدن كالقدس وغيرها، بعد أن طُرد أهلها من مدنهم، وقد ابتدأ مخيم شعفاط كغيره، مجموعة من الخيام، ثم جعل الناس بيوتهم من الصفيح. وحين يسأل فلاديميرُ رفيقَ رحلته الشّاعرَ ماجد أبو غوش: "أما تحسنت أحوال الأهالي إلى الحد الذي يجعلهم يقتلعون أكواخ الصفيح، ويبنون في مكانها بيوتاً من البيتون؟ قال: بلى، لكن البغالة لا يوافقون، فهم لا يسمحون بإدخال كيس إسمنت أو سيارة رمل إلى المخيم، فالبناء ممنوع، وترميم البيوت ممنوع"، ص302.

 

في مقابل المكان الأليف الذي يصرّ حسن حميد على فتح المغلق منه، توقاً إلى حرية الروح، ينهض المكان المعادي الذي تمثله المستوطنات والسجون، وهو مكان بالرغم من تحصينه يبدو مسوّراً بالخوف، وقد أشار حميد، من غير تفصيل، إلى المستوطنات، ربّما بسبب عدم حصوله على معلومات كافية حولها، ومن ذلك السياق التالي:  "نسأل الدليل غازي عنها، فيقول: هذه البادية أمامنا مستوطنة كريات أربع، وتلك المواجهة لها مستوطنة ماعون، وهناك، انظرا في الجهة المقابلة، مستوطنة كرمل، وفي البعيد تبدو مستوطنات أُخر. همهم الحوذي جو: تبدو كأنها أبراج مراقبة، وأهمهم أنا: كأنها أجمات شوك موسمية"، ص175.

أمّا السجن فإنّ المعلومات الراسخة والآلام الراشحة من أحاديث السجناء أكثر من أن يحيطها وصف، وتغصّ بها الرواية على الرغم من اتساعها، فالعذاب الذي يعانيه الفلسطينيون، رجالاً ونساءً، لا يمكن لكائن بشري أن يتحمّله أو يتصوّر بشاعته، ويمكن أن نشير إلى المقتبسات التالية:

  • "رأيتُ الأدوات الجهنمية، وأحواض الماء، والحبال التي يعلّق بها السجناء، وأجهزة الكهرباء، والدواليب الكاوتشوكية، وأكياس الخيش، والشباك، وقطع الحجارة، والسلاسل الحديدية، والأقشطة والأحزمة، والكلاب المخيفة، والقطط المرعبة، والثعابين..."، ص152.

 

  • "نساء عاريات، أيديهن مربوطة إلى وراء ظهورهن، وأرجلهنّ مشدودة برباط إلى الحيطان يجبرن على القرفصاء فوق أعناق الزجاجات الطويلة الفارغة، كي يغتصبن بالأعناق الزجاجية، فتتعالى الصرخات والأنات، ويتفجّر الدم، مرات ومرات يُعاد الاغتصاب، كي تنتزع منهن الاعترافات"، ص156.

 

 

  • "تصوّر أنهم كانوا يربطونه [والمقصود عبد العاطي التوبة] من خصيتيه، ويشدونه إلى الحائط، ويقلعون شعر جسده شعرة شعرة، ويعلقونه من إحدى أذنيه في السقف، ويرمونه في مغاطس ساخنة جداً، ثم يأخذونه إلى مغاطس جليدية"، ص259.
  • "وهل تعرف ما حدث لصالح الأسمر؟ قلت: لا. قطعوا عضوه التناسلي، لأنه حلف يميناً أن يتزوج عشر نسوان كي ينجبن أبناء يأخذون بثأره من سجانيه"، ص157.

(يتبع...)

.............

الهوامش:

 

  1. هكذا في الأصل
  2. هكذا في الأصل

تعليق عبر الفيس بوك