"والسَّماء ذات الحُبك"

 

 

محمد علي العوض

في كتابه اللطيف "أسرار الكون بين العلم والقرآن"، يسردُ المهندس عبدالدائم الكحيل أنَّ علم الفضاء الحديث تحدَّث عما يُعرف بـ"النسيج الكوني، وأنَّ مئات الأبحاث الموثقة من قبل وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" أوضحتْ أنَّ المجرات وتجمُّعاتها تُشكل نسيجاً مترابطاً كالخيوط المحبوكة؛ ولكن الحقيقة أنَّ ما توصلت إليه "ناسا" والعلماء أنزله الله تعالى في كتابه العزيز قبل أكثر من 1400 سنة، حين قال: "وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ" (الذاريات:7). وفي هذا إثبات لأنَّ القرآن مُعجِز من الناحية العلمية والكونيَّة، ويتوافق مع كل الحقائق العلمية: الثابتة، واليقينية.

فكلمة "الْحُبُكِ" بحسب أقوال المفسِّرين تعني النسيج المحبُوك والشديد والمُحكم، وقالوا: إنَّ "... والسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ" تعني السماء ذات الشكل الحَسن، وذات الشدَّة، وذات الزينة، وذات الطُّرُق. ويقول الإمام القرطبي -أحد المفسرين الذين توسَّعوا في تفسير هذه الكلمة والآية- أنّ لكلمة "الحُبُك" سبعة أقوال ومعانٍ: الأول ما قال به ابن عباس وقتادة ومجاهد: وهو أنّ "الحُبك" يعني "الخَلْق الحسن المستوي"، ويُوافق هذا قول عكرمة حين قال: ألم ترَ إلى النسَّاج إذا نسَجَ الثوب فأجاد نسْجَه، يُقال منه حَبك الثوب يحبِكه حبكاً، أي أجاد نسجه. ويتفق كذلك مع قول ابن الأعرابي بأنّ "كلّ شيء أحكمتَه وأحسنت عمله فقد احتبكته".

أمَّا القول الثاني، فيأتي بمعنى: "السماء ذات الزينة"، وقال به سعيد بن جبير والحسن الذي قال أيضا في رأي ثالث له إنَّ كلمة الحبك تعني "ذات النجوم".

وذهب الفراء في القول الرابع إلى أن: الحُبُك: تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح. والخامس: ذات الشدة، وقال به ابن زيد. وفي الحديث: أنّ عائشة -رضي الله عنها- كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة، أي تشد الإزار وتحكمه.

وفي رأي سادس "الحبك" تعنِي عند خصيف "الصفاقة"؛ وبالطبع ليس المقصود بالصفاقة الحماقة، بل تفيد معنى "الكثافة"؛ فالعرب تقول "ثوب صفيق" أي كَثِيفُ النَّسِيجِ.

ويُفضي المعنى السابع إلى أنّ المراد بـ"الحُبك" طرق المجرَّات التي في السماء.

ويقول ابن القيم شارحا الآية إنَّ أصل الحَبْك في اللغة هو إجادة النسج، وقال شمر: المحبوك في اللغة ما أُجيد عمله، ودابة محبوكة: إذا كانت مدمجة الخلق، وقال أبو عبيدة والمبرد الحُبك: الطُّرُق... والمقصود بهذا كله ما أفصح به ابن عباس فقال: يريد الخلق الحسن، وروى سعيد بن جبير عنه فقال: الحُبُك حسنها واستواؤها، وقال قتادة إن معناها: ذات الخلق الشديد، وقال مجاهد: السماء ذات الحبك أي متقنة البنيان، وله قول آخر أن الحُبك تعني الطرائق -جمع طريقة- لكنها بعيدة من العباد فلا يرونها".

ويكتبُ الكحيل أنَّه بتدبره لآية "والسماء ذات الحُبُك" والبحث حولها كان يتساءل: أين مكان هذا النسيج المحكم في السماء ونحن لا نرى إلا النجوم والكواكب؟ ويبيّن أنّه لم يعثر وقتها إلى ما يشير إلى أي نسيج في المراجع التي تتناول علم الفلك وبنية الكون، وبقيَت الآية في ذاكرته سنين عدة بلا تفسير دقيق؛ إلى أن قرأ خبراً أطلقه المرصد الأوروبي الجنوبي من خلال موقعه على الإنترنت عنوانه: "لمحة عن النسيج الكوني المُبكر جدًّا". ويقول -الكحيل- إنّه بعد قراءة الأسطر الأولى من مقالة المرصد الأوربي أدرك بأنّ القرآن الكريم قد سبق هؤلاء العلماء بأربعة عشر قرناً؛ حين تحدث عن هذا النسيج الكوني وسمَّاه (الْحُبُك)، بل إنّ الله تعالى قد أقسم به. ويضيف أنّه مخافة القول في كتاب الله بغير هدى وعلم وحتى لا يُحمِّل الآية معنًى لا تحتمله؛ عكف على كتب التفسير بجانب المعاجم اللغوية؛ لأنّ تفسير القرآن يقتضي الإلمام باللغة وحذقها ومعرفة سبل البحث والقياس فيها، ويقول إنّه وجد أنّ كلمة "الحُبك" من الفعل (حَبَكَ) وأنّ العرب كانت تقول: "حبكَ النسّاجُ الثوب" أي نَسَجَه، و(حَبَكَ) الحائكُ الثوبَ أي أجاد صُنعه وشدّه وأحكمه، و(الحُبُك) هي جمع لكلمة (حبيكة) وهي الطريق. ويرى من خلال المعاني اللغوية لهذه الكلمة أنّ كلمة (الحُبُك) تتضمن معاني أساسية تدور كلها حول النسيج والخيوط المحبوكة بإحكام، والمشدودة إلى بعضها بعضا.

وقد اكتشف العلماء حديثا أنَّ المجرات والنجوم والدخان والثقوب السوداء وغيرها من مكوّنات الفضاء تسير وتتحرك وتجري بحركة دقيقة جدًّا على مسارات محددة تشبه الطرق السريعة. وتظهر الدراسات الكونية الحديثة أنّ المادة المظلمة في الفضاء والتي تشكل نسبة عالية منه هي التي تتحكم بمصير هذه المجرات، وتجبرها على التحرك باتجاهات وطرق محددة لتشكل نسيجاً كونياً رائعاً.

وتظهر من بين الصور التي عضد بها الكحيل مؤلفه "أسرار الكون بين العلم والقرآن" صورة حاسوبية للنسيج الكوني تُظهِر خيوطا أشبه بالنسيج المحبوك حبكاً متناهي الدقة، ويشرح بأنّها بلايين المجرات المضيئة التي تصطف وتتناسق بشكل محكم، وتظهر كالعُقد التي تربط الخيوط ببعضها.

الكحيل يشير في فقرة ما إلى أنّ المُفسرين الأوائل لم يدركوا أبعاد معنى "الحُبك"؛ لأنّ العصر الذي عاشوا فيه لم تتوافر لديهم علوم الفلك الحديثة، زائدا على أنّ فكرة النسيج الكوني حديثة جداً؛ ولكن أعتقد أنّ أقوال المفسرين التي أوردها الكحيل تناقض ما ذهب إليه؛ فأقوال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن الأعرابي التي تدور حول معنى الخَلْق الحسن وإجادة النسيج، وكذلك قول مجاهد بأن السماء متقنة البنيان وذات طرائق لكنّها بعيدة عن العباد فلا يرونها؛ كلها تشير إلى أنَّ هؤلاء المفسرين الذين عاشوا قبل مئات القرون كانوا سبّاقين إلى إيراد هذه المعاني وطرقها قبل أن يتوصل العلم الحديث إلى ما يعرف بـ"النسيج الكوني" وما يدرينا لعلّ بعض علماء العصر الحديث اطلع على هذه الأقوال بجانب الآية وآيات أخرى في القرآن فأفادوا منها في التوصل لهذا الاكتشاف.