د. عبدالله باحجاج
من خِلال قراءتنا للقوائم النهائية لمرشحي مجلس الشورى للفترة الخامسة، نرى أن هناك مجموعة كبيرة من الشخصيات التي تتوافر على مقومات التمثيل، وبينها نسبة وتناسب في الكفاءة.. فمن ينبغي ترشيحه في ظل هذه الحالة؟ وقبل ذلك، علينا التذكير بما هو معلوم بالضرورة؛ وهو أنَّ حق التصويت أمانة، واختيار الأنسب من مجموع المرشحين هو استمرارية لهذه الأمانة التي لا تسقط عن الفرد ولا الجماعة مهما كانت مواقفنا من أداء الأعضاء السابقين "سلبا أو إيجابا"؛ فعلى كل مواطن أداء الأمانة، ولتحمل الآخرون تبعاتها يوم القيامة.
ولو حَاولنا التغلغُل قليلًا في السيكولوجيات الاجتماعية المحبطة من أداء الأعضاء، يمكن القول إن ذلك لا يجعلنا نفقد إيماننا بهذه التجربة، بل تعزيزها؛ وذلك اعتدادًا بالتراكمات التي قد تُنضِج الأداء والممارسات. ومن هُنا، ننبِّه من الالتفاف للسلبيين أو الرسائل السلبية التي ترى مجلس الشورى بعين واحدة، وحتى هذه العين ليست بكامل بصرها، وينقصها استشراف الأفق لأية تجربة بشرية، ودور البنى الأساسية في تطويرها كتجربتنا في مجال الشورى.
وحتى لو لم نَر إلا السلبيات، فإن ذلك لن يُسقط الحق في أداء الأمانة، ويحملنا -أي الحق- مسؤولية إعادة النظر في الاختيار الاجتماعي للأعضاء دون الإغراق في مؤهلاتهم فقط، والبحث فيهم عن مقومات الاجتهاد والفاعلية والفعالية، أي أعضاء مجتهدين، يتجاوزون قراءة ورقة المطالب وينتهي دورهم أو يستكملونه عبر طرق المكاتب.
لذلك؛ نريد أعضاء رقابيين مجتهدين، يخترقون بذكاء قيود الأدوات الرقابية دون أن يتحطَّم أداؤهم فوق صخرتها، نريد مشرعين يُؤمنون بصلاحية التشريع الممنوح لهم في اقتراح القوانين وتعديلها رغم القيود التي نطالب بتحريرها، دون أن يُفوِّضونها للحكومة حصريًّا، نُريد مشرِّعين يملكون الإمكانية لإقرار وتعديل القوانين التي تُقرها أو تُقدمها الجهات الحكومية لمجلس الشورى، دون أن يتغيَّبون عن جلسات التصويت لمجلس عُمان، نريد أعضاء يمثلون كل السلطنة مهما كانت مصانع ولاياتهم، يفكرون من منظور الوطنية الجامعة، والمصلحة العامة؛ سواء كان المواطن في أقصى جبال مسندم أو في جنوب ظفار.
نُريد أعضاء مجتهدين وفاعلين.. يُسهمون بذكاء الممارسة والعلم بعيدا عن المصلحة النفعية الشخصية أو المناطقية، دون أن يكون هاجسهم الاسترزاق بمال أو عقار من عضويتهم داخل المجلس، نُريد أعضاء لتعزيز تطبيق المادة (9) من النظام الأساسي للدولة التي تحدِّد المقومات الأساسية لنظام الحكم في بلادنا، وهي العدل والشورى والمساواة وحق المواطنين بالمشاركة في الشؤون العامة؛ استكمالا للفاعلية المجتمعية التي تنتهض لتفعيل المادة (10) من النظام الأساسي التي تعطيهم الحق في إرساء أسس صالحة لترسيخ دعائم شورى صحيحة نابعة من حضارة البلاد وقيمها دون التفريط بالمفيد من أساليب العصر وأدواته.
نُريد أعضاء بصرف النظر عن مؤهلاتهم، تتوافر فيهم صفة التمثيل المجتمعي مهما قربت أو انصهرت أو تباعدت علاقتهم بالسلطة والسلطويين، ومهما كانت الإغراءات والجاذبيات النفعية في السلطويين الذين سيلتقون بهم، وهى عناصر -أي الجذب- لو استسلم لها العضو سترفعه فجأة إلى عنان السماء، وكم رفعت؟ وفي المقابل هناك شخصيات خرجت من المجلس كما دخلته.
فهل ستخرج من صناديق انتخابات الفترة التاسعة لمجلس الشورى هذه الماهيات للمرحلة الوطنية المقبلة؟ هذا التساؤل نوجهه الآن للناخبين في عموم البلاد؛ فالتحولات المالية والاقتصادية التي تشهدها البلاد تُحتِّم ضخَّ مِثل تلكم الدماء التي تشعر بالمرجعية الأخلاقية والمهنية في أداء مهامها وصلاحيتها، ولن تخذل المصلحة العامة عند التصويت على قانون عبر امتناعها عن الحضور، ولن يأسر أداؤها المهني والوطني طموحها في المناصب ولا الأراضي التي قد تُمنح لها أثناء أو في ختام فتراتها، وهذا نموذجٌ من تراكم الممارسات الخاطئة خلال الفترات السابقة؛ مما يستوجب الاستفادة منها عبر اختيار من نَثِق فيه، ونَثِق أنه سينحاز للمهنية الأدائية، وأنه قادر من خلالها على الاختراق الإيجابي مهما كانت القيود المفروضة على الأداء أو مهما كانت ماهية صلاحيات المجلس المرحلية.
وهناك نتائج إيجابية لتجربة الشورى لا يُمكن إغفالها أو القفز فوقها، ويمكن الرهان على آليات إنتاجها، وكفى بها قبولا من التجربة إذا لم تحقق لنا إلا هي فقط، على اعتبار أنها تجربة وُلِدت لكي تتطور، ولكي تحمل معها المجتمع ديمقراطيًّا، ولو وصلنا إلى ذلك، فمن المؤكد أن سقف الطموحات الاجتماعية سيرتفع، وسنجد تجربتنا تتناغم مع هذه الطموحات بحكم الواقع.
من هُنا، فلو تأملنا التطورات الإيجابية المتحقَّقة على الصعيد الاجتماعي، فسنلاحظ أنها -أي تجربة الشورى- قد أسست مبدأ قبول الآخر لتمثيل الولاية/المحافظة إذا ما خرج من صناديق الانتخابات، والتسليم به، والتعامُل معه كنخبة تمثيلية ذات صفة مرجعية دستورية جامعة للتعدد والتنوع. كما سنُلاحظ كذلك إيجابية تطوُّر آليات وأدوات اختيار المترشحين من بين المتقدمين داخل كل كتلة انتخابية، والتي تأخذ الآن منحنًى مدنيًّا، يُمكن أن يحتوي كل المسميات، عِوَضًا عن أن تكون التكتلات ذات محتوى اجتماعي مغلق -نموذج ظفار مثالا.
وهذا الانفتاح على المُسمَّى يكفي لوحدة دلالة على تطور الوعي المجتمعي المتزامن مع حراك الانتخابات، فكُلما ترتفع حدتها التنافسية بين التكتلات في المحافظات، ينعكس ذلك على تطوير المنظومة التي تحكم آليات اختيار المتنافسين داخل التكتلات -نموذج ظفار- وهكذا نشهد اتساعَ حجم الانفتاح شكلا ومضمونا، فهل يمكن أن نصل في يوم ما -وقريبا- إلى إعادة النظر في حجم وتحالفات التكتلات بسبب هذا الانفتاح في الأفكار ومسميات الكتل؟
لن نَرَى في الأفق ما قد يجمعها -أي التكتلات- في كيان واحد؛ لأنَّ جوهر أية عملية انتخابية هو أن تكون مرتبطة بكتل انتخابية عديدة تتنافس في كسبها للرأي العام على برامج انتخابية أو على كفاءات ذات مصداقية عند الناخبين، وتنحِّي تجربتنا الآن عن الخيارين رغم ما قد يتوافر لخيار الكفاءة المجمع عليها -إن وُجِدت- الهامش الذي قد يُحدِث الفارق في صناديق الانتخابات، لكن ستظل التعبئة لكل تكتل انتخابي هي الحاسمة في الفوز خلال انتخابات الفترة التاسعة لمجلس الشورى؛ فكلُّ تكتل ينجح في التعبئة وكسر حاجز السلبية المتغلغة في الذهنيات العامة الناجمة عن سلبية أداء الأعضاء، سيُحدِث الفارق المضمون لحسم صناديق الانتخابات المقبلة، والعكس صحيح.
لكن ورغم ذلك، فإن كل مجتهد -لا نقول الكفاءات- ينبغي أن يفرض نفسه على صناديق الانتخابات؛ فالمجتهد المثقَّف والنزيه والنظيف، والوطني الذي يكون جل همه خدمة مجتمعه ووطنه ترفُّعا عن مصالحه الخاصة، لا يمكن مقارنته بالكفاءة المجردة من تلكم المضامين.. وهنا تقع المسؤولية الكبرى على الناخب، فمن سيختار؟!