كيس بذور الأزهار والفكر التنموي المبتكر

د. سيف بن ناصر المعمري

التنمية فكرٌ قبل أي شيء، والمسؤولون يتباينون في هذا الفكر.. ووفقا لهذا الفكر، تتباين أوضاع الدول: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية؛ فهناك دولٌ تصل إلى قِمة التقدم والتفوق في مرحلة من المراحل، ودول أخرى تنحدر إلى أقصى الدرجات نتيجة عدم الاهتمام بالفكر الذي يحمله المسؤولون عن أي قطاع، ودون أن يأخذ بعين الاهتمام قدرتهم على الإبداع والابتكار في التعامل مع المشكلات الطارئة التي لا يمكن أن تُحَل بالطرق العادية، كم مشكلة واجهتها التنمية ولم تجد حلا مبدعا يحولها إلى فرصة يستفاد منها؟ كم من تجارب حولنا في هذا العالم تقدم حلولا لإشكاليات تتشابه مع إشكالياتنا ولكنَّ المسؤولَ الذي يجوب هذا العالم لم يتمكَّن من استلهام أو اقتباس حل يستطيع به أن يحل ما يواجه مؤسسته من مشكلات؟ وإذا كانت لدينا ملفات وإشكاليات تنموية مفتوحة على مصراعيها تحت سمع ومرأى كل المؤسسات والمسؤولين عنها، دون أية حلول مبدعة، فما معنى ذلك؟ هل معنى ذلك أن لدينا أزمة فكر تنموي تتطلب التفكير والمراجعة، حتى لا تمضي السنوات علينا ونحن نتطلع إلى بعضنا البعض دون أن نجد مؤسسة تخرج عن التيار السائد الذي يمضي دون الالتفات إلا للأعمال اليومية الروتينية التي تواجه العمل دون التطلع إلى ما يطرأ من قضايا جوهرية تفقدنا مقومات القوة والفرص التي يمكن أن تقودنا إلى أن نكون أفضل وأكثر قدرة على المنافسة.

هذا يقودنا إلى حكاية البذور البوذية، والتي يُمكن أن نستلهمها في فهم كيف يتباين الفكر التنموي ويؤثر علينا كثيرا، تنصُّ الحكاية هذه على أنَّ أحد الملوك البوذيين كانت لديه ثلاث بنات أراد أن يختبِر مَن منهن تصلُح للمسؤولية والحكم من بعده، فذات يوم عمل اجتماع لهن وقام بتسليم كل واحدة منهن كيسا من بذور الأزهار، ثم قال لهن: سوف أخرج في رحلة طويلة تستمر إلى سنتين، وبعدما أعود أريد من كل واحدة منكن أن تحفظ البذور على أفضل وجه، ومن تحفظها كما هي سوف تكون وريثتي، وبعد أن مضى، قامت البنت الكبرى بوضع البذور في الخزنة التي في غرفتها، وأخفت المفتاح في مكان سري لا يُمكن أن يعرفه أحد إلا هي، أما الوسطى ففكرت بطريقة مختلفة، فذهبت إلى السوق وقامت ببيع الكيس، على أمل أن تشتري كيسًا آخر حين يعود والدها الملك، أما البنت الصغرى فكان تفكيرها مُختلفا؛ حيث خرجت إلى الحديقة خلف القصر، وقامت برميها في الهواء فتساقطت على تلك التربة الخصبة، وانتهت عند هذا الحد سياسة كل واحدة منهن؛ فالكبرى ترى أن الاحتفاظ بالأشياء هو أفضل طريقة للحفاظ عليها، أما الثانية فسياستها البيع، أم الصغرى فترى أنَّ الاستثمار الذي يقود لمزيد من المحصول والعوائد هو ما يحفظ الأموال والبذور، علي أية حال عاد الملك من جولته، واطَّلع على ما قمت به كل واحدة منهن، وقال للكبرى: عليك أن تتعلمي أن لا تختزني وتحتفظي بما تملكين، وقال للوسطى: عليك أن تتعلمي ألا تعيشي دائما من خلال إجراء الحسابات، وقال للجميع كلاما يستحق أن يتأمله أي متخذ قرار رفيع في البلد، قال: من تفتح يدها وقلبها وتتحلي بالسخاء والابتكار يمكنها أن تتقلد المسؤولية.

... إنَّ التنمية لا يُمكن أن تكون دون سخاء وابتكار في استثمار الموارد المتاحة؛ بما يضمن الاستفادة منها بشكل أفضل؛ والسؤال الذي نريد أن نطرحه لمن نريد أن نحتفظ بكيس مواردنا الطبيعية إن لم نستثمرها سياحيا؟ ولمن نريد أن نبيع مواردنا البشرية ونستقدم بدلا منها موارد بشرية يحمل الكثير منها كثيرًا من الإشكاليات في الموهبة والكفاءة والمؤهلات؟ هل يمكن أن تكون تجربة هذا الملك قابلة للتطبيق على مستويات مختلفة من المؤسسات ومتخذي القرار في ملفات الباحثين عن عمل والتنويع الاقتصادي، والاستثمار الأجنبي، وهل سنتان يُمكن أن تفرز لنا من يملك فكرا تنمويا مبتكرا مِمَّن لا يملك؟ وما هي ردة الفعل؟ هل نستطيع أن يُصارح البعض أن الساحة لم تعد تحتمل متفرجين تريد فاعلين ومبتكرين، أم أن الأمور ستجري كما هي سواء كان هناك ابتكار أم لم يكن؟