الوصف عبدُ السرد

محمد علي العوض

من يقرأ للأديب السوداني والقانوني الضليع كمال الجزولي يُدرك تمامًا ما وصفه به المصري د. هشام السلاموني في تقدمته لكتاب "الرزنامة"، بأنّه رجل "حكاء"؛ فمستويات المعنى في نصوص الجزولي السردية أوسع من أن تكون مجرد عبارات متراصة لعينها؛ لا سيما نمط الوصف عنده؛ باعتباره حاملا أساسيا لقيمة الكتابة، ومُضطلعا بوظائف أكثر في بنية النص.

وفي نصِّه الشائق "سفير جهنم"، يصنع الجزولي نوعًا من التجاور والتحاور بين العنوان وبقية مكوّنات النص؛ فيغدو العنوان نصًّا موازيًا منفتحًا على المتن وفحوى الموضوع، وتتبدى حمولات مفردة جهنم الدلالية أكبر من معنى نار الطبخ، أو الحريق أو نار الاصطلاء حتى؛ فالناص بقصدية منه نسَب السفير إلى جهنم. وما أدراك ما جهنم؛ فهي نزَّاعة الشوى، وموئل العصاة، ودار العقاب وهيهات العودة.

عبارة "سفير جهنم" كانت كناية عن "تريكن" الملحق العسكري الإثيوبي في السُّودان قبل انقلاب مايو 1969م.. ولأنّ الكناية "تعبير لا يقصد منه المعنى الحقيقي، وإنّما يقصد به معنى ملازمًا للمعنى الحقيقي"؛ فالجزولي حين وصف "تريكن" على لسان "الشَّاعر والروائي الرَّاحل محمود محمَّد مدني" بأنّه "سفير جهنم" قصد من ذاك وسم الموصوف بالقسوة والصلف، وربما تجاوزه لقسوة المكان الذي اتَّخذه سفيرًا له؛ فمجرَّد ذكر اسم تريكن "كان كفيلاً بجعل الفرائص ترتعد، وبإثارة أقصى درجات الرُّعب في نفوس الإثيوبيين المقيمين بالخرطوم من معارضي نظام الإمبراطور هيلاسلاسي..) (كانت تنتشر الحكايات، بين الحين والآخر، عن تصفيات تتمُّ لبعض رموزهم! وعلى حين كانت أصابع الاتِّهام كلها تشير إلى سفير جهنَّم)، (كانت الألسن تضجُّ بالشَّكوى من استخذاء الحكومة إزاء جرائمه البشعة التي أزكمت رائحتها الأنوف، والتي غالباً ما كان يستخدم فيها بنات الهوى الإثيوبيَّات المغلوبات على أمرهنَّ).

ولأنَّ أحداث القصة كانت واقعيّة، فقد منح الجزولي -أسوة بالمدرسة الواقعية - الوصفَ مساحةً واسعة في زمن خطابه السردي.. كشف من خلاله العوالم السيكولوجية لسفير جهنم، بل وصل لمستوى التحليل النفسي وإعطاء التبريرات المسبقة لما يصدر عن شخصيته من سلوك عملي أو معرفي أو حركي (.. العزلة التي أدخل نفسه فيها منذ أوَّل قدومه، هالة الغموض الكثيفة التي ضربها على حركاته وسكناته..) (.. ملامح شاحبة السُّمرة لغردونيٍّ نبيلٍ من جيل الحركة الوطنيَّة، والاستقلال، والسَّودنة) (مؤمِّلاً، عبثاً، أن أنتزع، من وسط رماد تلك الملامح الكالحة، شخصاً ما، عرفته يوماً ما، في مكان ما، وفي زمان ما!) (.. مضى يحدِّق في الفراغ، طويلاً، بطيف ابتسامة مطفأة، وبعينين كلبيَّتين..).

هذا النوع من الوصف يرتبط بنمط الرؤية السردية والرؤية من الخلف التي تتيح للسارد أن يكون عالمًا بكل شيء أو خالقًا لكل شيء، كما أنَّ هذا الوصف يخدم معنى السرد الذي يؤسِّس له ويستدعيه ويحكم امتداده الدلالي.

عملية الانتقاء الوصفي عند الجزولى غاية في الروعة؛ فالعملية الوصفية حين تبدأ -سواء كانت واقعية أو توهما بالواقعية- تفرض علينا أنْ نُمارس انتقائية تجاه الموصوفات؛ درءًا لتفادي الازدحام وتراكم التفاصيل، ولكن لا تتم عملية الانتقاء ببراءة أبدا لأنها بالضرورة ترسم أثرا جليا للأبعاد المعرفية والسيكولوجية والأيديولوجية، فحين يقول الجزولي: "نظاراته السَّميكة يجبُر كسر أحد ذراعيها بسلك نحاسي"، فهو ينتقى من النظارة أحد ذراعيها ويغوص فيه متأملا ليصل إلى أنَّه مكسور، ثم يغوص أكثر ليكتشف أنَّه جُبر بسلك نحاسي.

ويُواصل في ذلك لينتقي من هيئته الخارجية بيجامته وحذاءه وما بان من جلده (بيجامته الواحدة، الممزَّقة، حائلة اللون، بائنة القذر)، ومن دون سائر الأشكال الهندسية ينتقى الخط المستقيم عِوَضا عن الدوائر أو مربعات "الكاروهات" (تكاد خطوطها لا تستبين)، ولم يعمد إلى وصف الحذاء بمفردتيْ البلى والقدم، بل عمد للأثر الدال على المسير وانتقى صفة التشقق (حذاؤه الجلديُّ الأغبر، المشقَّق).. كدلالة على طول المكوث، ولم يقل عينيه كالصقر بما له من مهابة، بل اختار عيني الكلب الراصدتين دونا عن عيون سائر الحيوانات الأخرى (عينيه الكلبيَّتين)، وربما وقع الاختيار على الكلب لما يحمله من صفة الانقياد وطوع أمر سيّده، فـ"تريكن" كان مخلب الإمبراطور الإثيوبي الذي يسوم مواطنيه سوء العذاب.

نتلمّس داخل النص أيضًا تراتبية في الأوصاف -أي التدرّج في الوصف- فمثلا عندما نقول: "رجل ربعة أبيض الوجه ذو لحية مستديرة" نكون نفذنا من الجسد إلى الوجه ومن ثمّ إلى اللحية؛ أي الأكبر إلى الأصغر. وعندما يقول الجزولي: "عُدت أتفحَّص هيئته الرَّثة، وأتمعَّن في عينيه الكلبيَّتين تتصيَّدان أعقاب السِّجاير الشَّحيحة حولنا"، يتدرَجُ من تفحص الهيئة العامة الرثة إلى دائرة أصغر هي العينين. ويتدرَّج في موضع آخر من الخارج "بيجامته الواحدة" إلى ما تحت الثياب، إلى "الطبقة القشريِّة تكسو جلده، كما سمكة عجوز".

وحين يستخدم الجزولي الأدلة اللغوية لتجسيد الموصوف، ينفلتُ من حيز الدلالة المعيارية ليدخل مجال التمثيل الرمزي القمين بتهذيب الألفاظ وانتشالها من دلالاتها المتعارف عليها أصلا بفضل تموضعها داخل النص؛ فهو يدمجُ عناصر الأشياء والطبيعة والملامح في سياق إبداعي؛ وبمعنى آخر أنّه حين يقول "حذاؤه الجلديُّ الأغبر"، "يرتق ما انفتق فيها، وما نَسَلَ منها، بالشَّوك ينتزعه من بعض الشُّجيرات في فناء المستشفى"، "تحت الظلال المسائيَّة لحوائط السِّجن الصخريَّة.."، "يجلس، كعادته، وحيداً، على أريكة خرصانيَّة تحت ظلِّ شحيح لشجيرة بالفناء"، فإنّه يمرر طبوغرافية المكان عبر رؤية السارد المحايثة لرؤية الشخصية: "مستشفى سجن كوبر" والزمان "أحد نهارات الخريف".. "الأرض مُتربة تنمو فيها شجيرات الشوك الحاد".. "السجن أقيمت حوائطه من الصخر"، "ثمة أرائك تتوزع في باحة السجن".. هذا التتالي الكثيف للعناصر الموصوفة والتنقل بينها دون إخلال بالصورة العامة لباحة السجن يجعل الوصف يتوازى مع تموّجات انفعال داخلي موجود بالضرورة لدى السارد الجزولي والسجين في آنٍ واحد؛ فالكاتب الحاذق هو من يُوجِد علاقة غير ملموسة بين الوصف والسرد؛ يبدو فيها الأول وكأنّه شبه منعدم ولا نحس به أثناء القراءة.

نَلْحَظ أيضًا سيلا من الجمل السردية المشوبة بصدى وصفي منسرب بين ثنايا لغة الحكي عند الجزولي، لا سيما في فقرة "وعلى حين راح اهتمام المعتقلين به يذوي، رويداً رويداً، ويضمحل، ربَّما لكون الذي فيهم يكفيهم، أخذ انشغالي بأمره يزداد، لسبب ما، وبنفس المتوالية، مع أنني لم أكن أفضل حالاً من الآخرين! كان ثمّة رنين خافت، يأتيني من غور أغوار دواخلي، بأنني أعرفه! لكن.. كيف، وأين، ومتى؟! لا أعرف".. والتي تتبدى فيها براعة تزاوجات الألفاظ والأوصاف؛ فالفعل "أخذ" لم يقصد به الكاتب النوال والاقتطاع؛ وإنما أراد تصوير حالة من التصاعد والتحول لحالة ديناميكية وسيكولوجية أخرى، وكان بإمكانه استخدام أفعال تؤدي ذات المعنى السردي؛ مثل: "انشغلت"، أو "اهتممت"، إلا أنّهما يختلفان من حيث الدلالة؛ فالفعل "أخذ" يُترجم إحساسًا داخليًّا مُفعما بالفضول والاكتشاف؛ وهو أمرٌ يتعذر دلاليًّا عند استخدام الفعل "اهتممت".

أيضًا هناك تراكيب سردية وصفية نَلمَح فيها أبعادًا سيكولوجيَّة تكشف عن انفعال السارد وحالة الشخصيّة الآنية؛ حيث يتناسب الفعل "يذوي" مع الفعل "يضمحل"، و"رويدا" مع "خافت"، وتتناسب مفردة "الآتي من الباطن" مع "أغوار دواخلي".. وكأنَّ الوصف هنا صار عبدًا خاضعا للسرد - على حد قول جيرار جينيت.