قباطنة عمانيون.. باحثون عن عمل

د. عبدالله باحجاج

تنكشفُ لنا قضية أخرى من قضايا الخلل في التخطيط لمواردنا البشرية رغم أنها -أي تنمية الموارد- قد تأسَّست وتأطَّرت على فلسفة ربط التعليم باحتياجات السوق؛ بمعنى أن تكون التخصصات المعروضة للطلاب مرتبطة باحتياجات السوق العماني، ورغم أن القضية تصطدم بالسوق نفسه، وهى تتجلى -أي القضية- في مخرجات معهد الصيادين بصلالة (سابقا)، والذي تحول الآن إلى الكلية المهنية بصلالة، وعلى وجه الخصوص، مُخرجاتها في تخصص قباطنة "ربابنة" صيد ساحلي وصيد أعماق وعددهم 30 قبطانا.

فقد تخرجوا منذ ثماني سنوات، وحتى الآن بلا عمل، ووصل بعضهم الآن إلى سن (30-35) وإذا لم يتم التدخل العاجل لصالحهم، فسيدخلون سن فقدان الحق في العمل، ومن ثم مرحلة اليأس والإحباط؛ اللذين يغيران المسار ويحدثان التحول في القيم والأخلاق حسب ظروف الفرد وأسرته الاقتصادية، وتحت هذه الضغوطات القاسية، وهواجسها المخيفة، قبل البعض منهم العمل في مهن كسائق وحراس بوابات، والآخرون -وهم قلة- لا يزالون على قوائم الباحثين عن عمل، متطلعين لمهن تناسب تخصصاتهم أو مستوى تطلعاتهم.

كان هؤلاء الشباب ضحية ترويج وتسويق مهنة القباطنة، فقد رسموا لهم الأحلام الوردية في الوظيفة الفورية والعائد المالي المجزي، وأوهموهم بأنه لا توجد معاهد في المنطقة لهذه المهنة إلا في بلادهم، ونجح هذا التسويق في جذب الشباب، ودرسوا التخصص لأكثر من 4 سنوات، وكذلك 6 أشهر في الهند كتدريب عملي لما اكتسبوه من مهارات نظرية، وتقول مصادرنا إن حجم الفاتورة المالية للتدريب الخارجي فقط بلغت 270 ألف ريال، كما كسبوا خبرة تدريب أثناء تدريبهم في قيادة شرطة خفر السواحل التابعة لشرطة عمان السلطانية.

غير أنهم -ومنذ تخرجهم عام 2012 وحتى الآن- لم يتم طرح وظائف قبطان شاغرة، خاطبوا أعلى السلطات المركزية والإقليمية، وكل من فتح خاصة السمع لهم، يعرض عليهم مهنا متدنية رغم أن شهاداتهم قد تمَّت معادلتها من وزارة القوى العاملة كدبلوم فني متوسط.

التقى بنا بعضهم، وعرضوا قضيتهم، ووجدنا نفسياتهم في القاع، وطرحوا علينا التساؤلات التالية: هل من العدالة أن نرمي بتخصصنا عرض الحائط ونقبل بمهن سائق وحراس بوابات؟ لماذا يتم إنفاق الأموال العامة لتأهيلنا وتدريبنا في الداخل والخارج على تخصصات مهنية يكون مصير حامليها ثماني سنوات بحثا عن فرص عمل حتى الآن؟

تِلكم تساؤلات مشروعة، فمن المسؤول عن الأموال التي صرفت على تلكم التخصصات؟ وقبلها نتساءل: كيف تم فتح مثل هذه التخصصات دون دراسة احتياجات السوق المحلي؟ من المؤكد أن هناك أخطاء قد ارتُكبت في التقديرات، وقد اتُّخذت على ما يبدو بناءً على قرار مكتبي فقط، بدليل تحويل معهد الصيادين في صلالة إلى الكلية المهنية، وإلغاء قسم الملاحة البحرية وتقنيات الصيد، وتحويله إلى الخابورة.

لكن.. هل يُعقل أن تخصصات علوم الملاحة البحرية وتقنيات الصيد لا يوجد لها سوق داخل بلادنا؟ نعلم، وتعلمون أنَّ هناك الكثيرَ من القطاعات المدنية والعسكرية يمكن أن تستوعب هذه التخصصات، فأين الخلل؟ ربما أننا ما زلنا قابعين في المربع الأول الذي ينتج الفشل، لكن متى سنغادره؟

سَيْرُنا نحو الإصلاح والتطوير يسير ببطء ورتابة، ولا يتناغم مع التوجيهات السامية لتنمية مواردنا البشرية -كما يجب- وفق رؤية ومخططات واضحة، وتسكينها مباشرة على مهن ووظائف بصورة تلقائية، فهل علينا أن نراجع نهجنا في ميكانيزم وآليات المسير، فمضامينه الرائعة -أي المسير- لا خلاف عليها، لكن كيف نعمل على بلورتها بالكيفية المطلوبة وفي الآجال الزمنية المناسبة، نتمنَّى من الجهات المختصة التفاعل مع قضية هؤلاء المواطنين عاجلا قبل أن يدخلوا في نفق فقدان السن القانوني المسموح به للعمل في قطاعات البلاد المدنية والعسكرية، فهل من مجيب؟

ونتمنَّى كذلك أن لا يتم تسويف هذه القضية، وتُرمَى في سلة القضايا المؤجلة للمركز الوطني للتشغيل، فهو تنتظره سلة كبيرة من القضايا، تتمدد وتتسع بقضايا الباحثين عن عمل، ولا يزال هذا المركز في طور التأسيس وتكوين الأطر والفاعلين حتى العام 2020، فهل ستؤجل كل القضايا حتى هذا التاريخ؟ قد يكون مبررا -أي هذا التاريخ- لدواعي مرحلة التأسيس الممنهجة والقوية، لكن، كُنا نأمل أن يشكل لجنة مؤقتة وعاجلة لتسيير وإدارة قضايا الباحثين عن عمل التي لا تؤجل حتى يتم استكمال مقومات مركز التشغيل، عِوضا عن تركها ضمن صلاحية الآليات السابقة التي على أنقاضها جاءت فكرة إقامة المركز.

ومبرِّرات تلكم الرؤية لا تزال قائمة وبنفس القوة، من الآن وحتى في حالة مُباشرة المركز الوطني للتشغيل مهامه؛ لأنها قضايا عاجلة، وتحتم إدارة استثنائية، تخرج من سياقات السير الاعتيادي، وذلك للظروف الاستثنائية للحالات التي تستدعي الإدارة والتدخل الاستثنائي، مثل قضية الربابنة وقرب تقادم سن الكثير من الباحثين عن عمل لسن استحقاق العمل القانوني، والباحثين عن عمل للظروف الاجتماعية الخاصة..إلخ.

وكما أشرنا سابقا، فسِن الربابنة الباحثين عن عمل وصل في سقفه الأعلى 35 عاما، وإذا انتظر حتى إقامة المركز الوطني للتشغيل، فإن سن اليأس سيترسخ في سيكولوجيتهم، وسينتج عنه تغير ذهنيات ومن ثم مسارات. لذلك ندعو على الأقل أن تكون هناك مبادرات لو على صعيد كل محافظة من محافظات البلاد للقيام بعملية ممنهجة لحل مثل هذه القضايا العالقة، وإلا فما الحل؟

من المُؤكد أن الحل لن يكون في "تطنيش" هذه القضايا مهما كانت الأسباب، فكيف لو كان مثل القباطنة ضحية تخصصات لم يقبلها سوقنا المحلي؟ وهي كذلك، ينبغي هنا تسمية الأمور بمسمياتها؛ لأنه لا يعقل أن تكون هناك ندرة في الطلب على هذه التخصصات، خاصة وأن هناك قطاعات عديدة يمكن أن تقبل مثل هذه التخصصات، وهنا وَجَب التدخل العاجل، فهل من مجيب؟!