صراع أجيال

علي بن سالم كفيتان

نعيشُ اليوم واحدةً من أشد مراحل صراع الأجيال، في ظلِّ ندرة قنوات الحوار الشفاف بين الجيل الكادح الذي يرى نفسه نجى من ويلات ومحن عظيمة، واستطاع أن يتحدى الظروف ويخرج منها سالماً، وشكَّل ذلك شعورا نرجسيا بالنصر، ظلَّ مصاحباً لهذه الأنفس المُنهكة، وانعكس على الجيل السبعيني (ما بعد عام 1970)، الذي غيَّر فيه عاهل البلاد المفدى كلَّ خلفيات الصورة، ورسم بريشته الحالمة واقعاً مختلفاً أربك الجيل السابق واللاحق؛ فالقادمون من ماضِي الحرمان ظلوا مُحتفظين ببقايا أدواتهم التقليدية، معلنين في كل المناسبات أنَّنا نعيش فترة ربيع قابوسية، وظلوا رغم كل التحولات التي طالتْ مناحي الحياة المختلفة يتوعَّدون أبناءهم وأحفادهم  بنوبات قحط وموجات قلق لا قبيل لهم بها، بينما أخضرَّ الفرعُ السبعينيُّ من تلك الشجرة التي كابدتْ أطول الفترات جفافاً وقسوةً في تاريخ بلادنا، وتصارع مع جيلين: جيل الأجداد المتوجسين وجيل الأبناء الطامحين لغد تِقني لا يرحم، وبينهما الغُصن السبعيني الذي كُتب له أن يكون همزة الوصل بينهما.

إن جيلَ من يُعرِّفون أنفسهم بالمؤسِّسين، جلهم أصبح مصابًا بمرض الأنا، إلا من رحم الله، فتجدهم ينسبون كل الوجوه المشرقة إلى أنفسهم، ويرون في ذواتهم الحارس الذي لا يترجَّل عن ثغره مهما تقاطرت عليه السنون، وضعفت مداركه وقدراته؛ فهم الأوصياء على كل الإنجازات ولا يتصورون ما ستكون عليه الأمور في حال غيابهم؛ لأنهم لا يُؤمنون بنظرية السيناريوهات وتعاقب الأجيال؛ لذلك ظلَّ مَن بَعْدهم مُبعدين؛ كونهم ليسوا أهلًا للثقة، ومن نجا منهم ونفذ عليه أن يُراجع أفكاره الرجعية التي تلقاها في أروقة الجامعات؛ لأنها باختصار لا تصلُح للتطبيق في قاموس حراس التغيير.

هُناك جيلٌ مُعلق بين الجميع، وهم من قَادتهم أقدارهم ودفعتهم عاديات الزمن ليكونوا وقودا للتغيير، فلم تكن تهمهم الأيديولوجيات بقدر أهمية إزاحة الظلم والقهر فغادروا صغارا أعشاش آبائهم ورحلوا على الدروب الوعرة حُفاة شِبه عُرَاة، آملين العودة بالنصر، لكنهم في آخر الكفاح سلَّموا أسلحتهم، وبعضهم واراها التراب ودفن معها كلَّ ما كان يبحث عنه منذ رحلته الأولى، ومن تبقى منهم على قيد الحياة جالسون على تخت التقاعد، يرثون صولاتهم وجولاتهم، بينما بعضهم نسوا أو تناسوا ما حدث وأصبحوا تجارَ مواشي أو سماسرة عقارات، والأسوأ حظا هم اليوم مراجعون دائمون لعيادات الطب النفسي.

لم يتبقَّ الكثيرُ من الجيل الأسوأ حظاً، ولكن تحفظهم وحذرهم لا يزال مغرُوساً بعمق في ابنائهم، وهم من أنجب النسخة الأحدث من البشر التي تبحث عن مكانها اليوم، وتُتهم بالكسل والرُّكون للدعة والراحة مُقارنةً بمن سبقهم كجيل المخضرمين (حراس النصر)، وجيل السبعين الذي ابتسمتْ له الحياة بقدوم جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- فنالوا الاهتمامَ والرعايةَ، وتمَّ ابتعاثُهم لكل أقطار الدنيا، لكن علمهم لم يكن كافيًا لقيادة المرحل الفاصلة، فروح الانفصام لا تزال حاضرة؛ لذلك اكتفوا بدور المشاهد، وفي بعض الأحيان المثبط، ولكن يُحسب لهم الفضل في الانفجار السكاني والحفاظ على السُّلالة.

يُواجه الجيل الشاب اليوم مَوجة اتهامات غير مسبوقة، وكمًّل هائلًا من الرسائل السلبية، فتجد الصورة كالتالي: يحضُر الأب في آخر النهار مُنهكاً من عمل مضنٍ؛ فيمر على الأبناء مروراً كمن يستعرض حَرَس الشرف ومن نطق يطاله العقاب، هنا تتدخل الأم المسكينة وتتلو رسالتها اليومية بأنَّ أباكم هو من يشقى لأجلكم، فيأخذ ذلك المنهك غداءه على طبق الخمس نجوم، وتنسل الأم لكي يرتاح قليلا، وفي المساء يبرز الرجل في الصالة وفي يده جهاز التلفاز يتصيَّد الأخبار من محطة إلى أخرى، وهنا يتسلل إليه أقرب الأبناء، ويبدي رغبة العائلة للتنزه، فيغلق التلفاز مُغتبطا، ويحاضر فيهم عن كفاحه وكفاح آبائه وأجداده، ويبين لهم أنه هو الطاعم الكاسي، ولا مانع من التحليق على فواتير الكهرباء والمياه وأخواتها، وهنا يتنازل الأبناء والأم عن الرحلة، ويخرون له ساجدين على فضله ونعمائه، وبعد المغرب يذهب كعادته إلى أحد المقاهي ليحتسي الشاي ونفحات الأرجيلة بكل النكهات، حتي يعود بعد منتصف الليل، فيُغلق كل المكيفات، فالتقشف أصبح سيد الموقف، ولا بد من التضحية الجماعية، ويجمع الهواتف والأجهزة اللوحية فهي العدو في نظره... ومن هنا، تولدت فجوات عظيمة بين الأجيال وجب الانتباه لها، والعمل على ردمها عبر الحوار الهادف البناء، ورفع جدار الثقة عالياً، ومعالجة الأخطاء بكل شفافية.