الاستظلال بأمان الهوية العمانية

د. عبدالله باحجاج

شاءت الأقدار أن نزُور بلدًا عربيًّا انفجرتْ فيه مَوجة عنف دموية جديدة ومفاجئة، أرعبت الداخل والخارج، وحبستْ سيَّاحه داخل مخادعهم الفندقية لفترة قصيرة من الزمن، وقد كُنا في فندق يعج بالأشقاء العرب بمن فيهم خليجيين مُشاركين في فعالية إعلامية كبيرة، بدا على الخليجيين القلق من الظهور خارج أروقة الفندق بهُويتهم المميزة، رغم أن موجة العنف كانت محدودة ومركزة في حيز زماني محدود، ولا تشير أية مظاهر أمنية أو عسكرية إلى وجود مخاوف أو تحذيرات من تجدد العنف، فقد رجعت الحياة إلى طبيعتها سريعا، بينما لا تزال الفضائيات تفتح برامجها الحوارية لاستشراف آفاقها.

وطوال إقامتنا في هذا البلد، لم نشعر بالقلق فيه إلا إذا فتحنا هذه الفضائيات، فأينما كنا نذهب، في العاصمة أو بنزرت أو مقاهيها ومطاعمها السياحية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، لا يُوحي إلينا أنه وقبل ساعات كانت في أحد شوارع عاصمتها عملية إرهابية، وقد شكل لنا ذلك مفارقة كبيرة، فلو كنا في دولة أخرى -وقد كنا في إحداها- فمثل الفندق الذي نقطن فيه سيعج بحراسة مشددة ظاهرة وباطنة.

هذه بلد أبو القاسم الشابي الملقَّب بشاعر الخضراء نسبة لبلده تونس الخضراء، إنها تونس الشقيقة التي اتَّخذت من أهم قصائده الرائعة نشيدها الوطني، وهى قصيدة "إرادة الحياة"؛ فمن منا لم يسمع هذه الابيات الخالدة: "إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد ان يستجيب القدر.. ولابد لليل أن ينجلي.. ولابد للقيد أن ينكسر.. ومن لم يعانقه شوق الحياة.. تبخر في جوها واندثر".

إنَّها تونس التي تتميز بشعبها المتعلم، وأرضها الخضراء، وحضارتها العميقة.. فقد سُئل الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبه: ألا تخشى من تعليم الشعب؟ فرد عليه قائلا: لأن يُطيح بي شعبٌ مُتعلمٌ أفضل من أن يطيح بي شعب جاهل، وتونس الآن تجني ثمار هذا التعليم الذي حصَّن وعي شعبها من الانزلاق في الطائفيات والجهويات، وأتون العنف.. وظل الشعب بفئاته المختلفة يُراهن على العيش المشترك رغم وجود الخلافات، ويرى في النظام الانتخابي أفضل وسيلة معاصرة لحسم الخلافات، والتعايش معها إذا استحال حلها.

وهذا ما يُفسِّر لنا سرًّا من أسرار تجاوز هذا البلد تجدُّد العنف سريعا والانتقال للسير الاعتيادي للحياة فيها دون وجود أية أشكال أمنية أو مسلحة، رغم أنها بلد مستهدف من قوى شر مجاورة لها، قد قلبت الأوضاع فيها عاليها سالفها، وتستبيحُ أراضيها هروبًا أو امتدادًا أو استهدافًا، وقد وجدت فيها -أي قوى الشر- بيئة خصبة بعد تغيير أنظمتها بالقوة، ويعاب على أنظمتها السابقة عدم رهانها على التعليم كمنهج حياة يعلي من الوعي، فرأينا في هذه الدول كيف يقتل شريك في الوطن شريكه وربما يكون شقيقه أو جاره، بسلاح محرض أو فتان...إلخ.

وقد كُنا نجوب تونس بهويتنا العُمانية، لشعورنا العميق بأنها -أي الهوية- قد أصبحت تُشكل مظلة أمن وأمان لنا أينما كنا في أية بقعة جغرافية في العالم، وهذه ليست مبالغة أو مدحًا للذات، وإنما حالة واقعية نشعر بها قلبيا، ونمارسها كسلوك وأفعال، وكل من نقابله، ويكون لديه وعي بالسياسة الدولية، كحالات تعرضت لنا في مطار الدوحة وأخرى في تونس، يحييون بالتحية التالية: "السلام عليكم يا أهل عُمان"، وقد استوقفني هذا النوع من التحية لنا، والسلام اسم من أسماء الله تعالي، ولأنها تحية أهل الجنة، ولأنها تحية المسلمين، ولأن الله جل في علاه قد أمرنا بها، ويعظم الأجر لمن يقولها ويرد عليها بالمثل أو أفضل منها، ولأن لها عمقا تاريخيا -سيأتي ذكره لاحقا.

زياراتنا الأخيرة لتونس، قد عظَّمت من شأن شعورنا بالهوية العمانية ومظلتها الأمنية على العُماني وكذلك على الآخرين، وهى مظلة متعدية؛ لذلك لا غرابة أن يطلبها بعض الزملاء بعد أن أصبحت هُويتهم مثيرة للمشاعر والعواطف، وتُشكل خطرًا على سلامتهم، لا لذاتِها المجردة، وإنما لتداخل البُعد السياسي فيها، قالها صراحة: "لو أن مقاساتك تناسبني، لتلبَّست هُويتك العمانية، وتجولت بها في ربوع تونس".

لن نُخفِي اندهاشنا بهذا الانكشاف الذي لم نكُن نتصوره بهذا الحجم، وإن كنا نلمسه ذهنيا، وهذا ينبغي أن يُعمق اعتزازنا بهويتنا، ونرفع مستوى إدراكنا الجماعي بها، ونبحث عن الأسباب التي تجعلنا نتميز ونأمن عنف الفرد والجماعة في أي زمان ومكان.

فمن نحن؟ من المؤكد لن يُفهم التساؤل بظاهريته السطحية، فهو يحمل أعماقا ينبغي الغوص فيها، ولن نزعم أننا هنا سنتمكن من استجلائها، وإنما هو تساؤل قد توارد إلينا من لحظة شعورنا بالأمان المفتوح وعابر الحدود، وسعى الآخر للاستظلال بأمان الهوية العمانية خارج بلده، فهل نجد مقومات ذاتنا في السجايا العمانية -أي الطبع والخلق- أو في ثقافتنا ومنتوجاتها القيمية والأخلاقية كالتواضع والتعايش والانفتاح الآخر والكرم وحب الخير للكل.. أم في التراث الحضاري والتاريخي للدولة العمانية المتأصلة في أعماق التاريخ الإنساني، وانعكاسات ذلك على المكون الديموغرافي العماني.

دُون شك، كل تلكم المقومات مجتمعة تشكل عوامل التميز والتفرد والخيرية، فهناك علاقة وطيدة وتبادلية وتكاملية بين البنى التحتية -الجغرافيا ومناخاتها وموقعها الجيوساسي، وبين البنى الفوقية -كالأفكار والقيم والأخلاق والمبادئ- وكلها تنتج الهوية العُمانية التي صنعت الأمن الداخلي، وذلك على اعتبار أن الأمن مسؤولية اجتماعية، وكذلك رسخت الأمان الذي هو عبارة عن شعور داخلي ينتج عن الأمن، ويتمثل في شعور الفرد والجماعة بالراحة والطمأنينة.

من هنا، فقد أصبحت الهوية العمانية يستظل بها الآمن والخائف معا، وتبعثُ الراحة والطمأنينة في نفوسنا وقلوبنا كعُمانيين، وكذلك في قلوب الآخرين، والأدلة كثيرة، سُقنا بعضها سابقا، ونحن على يقين أن هناك أدلة كثيرة تدلل على ما نؤكده هنا، ولعلَّ الجدير بالإشارة كذلك ما يقوله بعض أولياء الأمور لأبنائهم في الخارج، والذين من الجنسيات الأخرى: "إذا سألكم أحد من أي بلد أنتم، قولوا لهم من سلطنة عمان".

"السلام عليكم أهل عمان".. لا تزال هذه العبارة تتردَّد في كل جوارحنا وحواسنا، ولن تُنسى من ذاكرتنا، قِيلت علينا من توانسة في مطار الدوحة، وكذلك في بعض الأماكن التونسية السياحية، نفتخر بالمسمَّى وبصيغته، فقد أرجعنا -أي المسمى- إلى التاريخ، عندما كان أهل عمان حماة اللغة العربية، وانفرادهم دون غيرهم في الكثير من المجالات في الطب والفيزياء والفلك وعلوم البحار وعلوم الفقه والتفسير، نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: شيخ اللغويين الخليل بن أحمد الفراهيدي، واللغوي أبو محمد الحسن بن علي، وابن الذهبي أبومحمد عبدالله الأزدي، والطبيب راشد بن عميره الذي برع في تشريح جسد الإنسان والدماع...إلخ.

والكلُّ يعلم دخول أهل عُمان للإسلام بالحوار والعقل، وكُلنا نعلم مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أن أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك"، وهذا الحديث يعبر عن فضائل البلدان، وبلادنا تتربع على قممها، قديما وحديثا. ومن هنا، فقد أحيت تحية التونسيين لنا العواطف والمشاعر في قلوبنا، وعبرت عن ثقافة أشقائنا بتاريخنا، فلم يقولوها إلا استشعارا منهم بمقولة رسول الأمه -عليه أفضل الصلاة والسلام- وهو ما ينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحى.

من هنا، يُمكن القول إن الحاضر مرتبط بالماضي، وتِلكم أبرز تجلياته، وأن الحاضر والمستقبل قد أصحبا هاجسَ كل عماني؛ فالخيرية حالة متلازمة وذات ديمومة في الإنسان العماني وجغرافيته إلى يوم الدين، وقد جاء مُؤسِّس دولتنا الحديثة -حفظه الله ورعاه- ليعزز دولتنا الفاضلة، عبر استعادة الأمن الداخلي المسلوب "آنذاك"، وترسيخ الأمان للإنسان العماني عبر الحدود، ويجعل من أمن وأمان كل خائف من الأشقاء الادعاء بأنه عُماني.

وهذا هو الإنجاز العظيم الذي يحق لنا الافتخار به، والاعتزاز به، ويحمل كل فرد منا وكل جماعة من جماعتنا -كانت معنوية أو طبيعية- الحفاظ عليه مهما كانت التحديات؛ فمقولة رسولنا الأعظم -عليه أفضل الصلاة والسلام- سالفة الذكر، تحمل صفة الديمومة على دولتنا الفاضلة وخيريتنا البشرية التفاضلية، بالشهادة النبوية، فما أحوجنا الآن لمراجعة بعض المسارات والسياسات، ونحاكمها من منظور الدولة الفاضلة والشعب الفاضل، وهذه حالة وعي وتجلياتها لم تكن تنكشف لنا من هذه الأعماق إلا بعد سفرنا لدولة أبو القاسم الشابي.. حفظ الله أمنها واستقرارها، وسائر بلاد العرب والمسلمين.