د. سيف بن ناصر المعمري
أربع سنوات مضت منذ أن نشرتُ مقالًا بعنوان "النسب المحبطة للأكاديميين العمانيين في التعليم العالي"، وبالتحديد في 31 مايو 2015، وقد وجدت نفسي مضطرا للعودة للتذكير به في ظل تنامي مشاعر الغضب عند كثير من العمانيين تجاه هذا الملف، خاصة على خلفيات إنهاء عقد المحاضر محمد الشماخي من الكلية التطبيقية في عبري، والمطالبة بفتح ملفات شركات استجلاء الأكاديميين لقطاع واسع من الكليات؛ حيث وجدت الكثير من الكفاءات العمانية نفسها مجرد ورقة لتغطية نسبة التعمين المطلوبة من هذه الشركات في الكليات؛ وليس موردا بشريا ذا أولوية لكي يحظى بوظيفة نوعية ويُسهم في الارتقاء بمستوى التعليم في هذه الكليات؛ وأعيد هنا لطرح بعض التساؤلات التي طرحتها في خاتمة ذلك المقال؛ لنعيد قراءة الوضع بعد مرور أربع سنوات، حتى نفهم ماذا يفعل متخذو القرار التعليمي في تطوير هذا القطاع؟ وأين مؤشرات التقدم؟ كانت خاتمة ذلك المقال الآتي: "أين التقدم في ملف التعمين في هذه المؤسسات بعد كل هذه العقود؟ ألا يُشكل التعليم العالي في عمان أكبر قطاع واعد للتعمين لو توافرت الإرادة؟ سيما وأنَّ نسب عالية من الوافدين ممن يعملون في هذه المؤسسات -حسب الإحصاءات الحالية- هم من حملة الماجستير التي يُوجد عدد كبير من حملتها من الشباب العُمانيين؟ ولقد أضفت إلى تلك التساؤلات الآتي: "إنّه من المؤسف حقاً أن تعلن مؤسسات علمية في عُمان في مواقعها الإلكترونية عن وظائف تعنونها بعبارة "لغير العمانيين"، هذا يُمثل أكبر ضربة للتعمين في هذا القطاع، سيما حين تتوافر الكفاءات المؤهلة التي من حقها أن تُنافس على هذه الوظائف بمؤهلاتها، وإذا استمرَّ الأمر دون قرار حكيم فنسبة العمانيين تتراجع بشكل كبير في مؤسسات التعليم العالي".
ولأنَّني كُنت أرى أنَّ هذا الملف الكبير والمعقَّد والمؤثِّر على مختلف المؤسسات: التوظيف وجودة التعليم، يستوجب دعوة المجالس التي نحسبها فاعلة لقيادة التصحيح الذي يفيد البلد، "وأدعو مجلس الدولة ومجلس الشورى ومجلس التعليم للنظر إلى هذا الملف بشكل جدي، وإيجاد السبل التي تتيح لجميع حملة الماجستير والدكتوراه العمانيين الذين يعملون في مؤسسات غير أكاديمية الانتقال للمؤسسات الأكاديمية، ووفق شروط وضوابط؛ منها: المؤهل والكفاءة والسيرة العلمية، فلو اجتاز هؤلاء هذه الجوانب فمن الأفضل الاستفادة منهم في أماكن أكاديمية بدلاً من أن يظلوا في أماكنهم الحالية يقومون بأعمال بعضها إداري يمكن لآخرين القيام به، فمصلحة الوطن تقتضي دائماً القرارات الصائبة في الوقت المناسب، كما أنَّ المؤسسات الخاصة مُطالبة بالعمل على زيادة نسب التعمين، وتيسير الشروط التي تقود إلى تحقيق ذلك، لا يُعقل أنْ تفتح مشاريع في البلد، وتكون أعلى نسب التوظيف في وظائف ذات أجور متدنية!!!".
ماذا أقول وغيري عن هذا الملف بعد أربع سنوات؟ لا مُؤشرات للتقدم، إنما هناك مؤشرات لترسيخ الوضع الراهن، ولم تتحرك هذه المجالس الكبرى المناط بها حفظ مصالح البلد وثرواته وكفاءاته من خلال التشريعات، بل إن هناك تشريعات متعلقة بقوانين التعليم تم تجميدها رغم أن مسوداتها الأولى عُرضت للرأي منذ ما يزيد على خمس سنوات؟ فلماذا تجاهُل قوانين التعليم التي يُمكن أن تضبط هذا القطاع الذي تسوده الضبابية والغموض، وتحركه خصخصة يتنافس فيها لاعبون كُثر على الاستفادة -سواء من التعليم أو التوظيف- وفي كلا المجالين هناك إشكاليات كبرى وخسارات تتراكم، وإخفاقات لا سبيل لإنكارها، وما حركة الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي وتقاريرها إلا دليل كبير على ذلك؛ وما يهمُّنا هنا هو التوظيف في الوظائف الأكاديمية، ونتساءل ولعلنا نجد من يقنعنا: لِمَ يوظف هذا القطاع أعدادا كبيرة من غير العمانيين، رغم أن المقال المذكور أعلاه أوضح منذ ما يزيد على أربع سنوات أن من يتم استقطابهم في مؤسسات التعليم بصفة عامة ومؤسسات التعليم الخاص على وجه الخصوص، هم من حملة مؤهلات البكالوريوس والماجستير، وقلة من حملة الدكتوراه، هذا هو المعطى الأولى. أما المعطى الثاني، فهو إخفاق كثير من مؤسسات التعليم في اجتياز شروط الاعتماد التي وضعتها الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي بهذه الكوادر البشرية، ومن يَعُد لموقع الهيئة وإلى بعض الوثائق على موقع وزارة التعليم العالي، يجد كلَّ هذه المعطيات مُوثقة بالأرقام ولا سبيل إلى إنكارها؛ إذن لما تُوصَد أبواب هذه المؤسسات في وجه الباحثين والكفاءات العمانية إذا انتفى شرط المؤهلات العليا وشرط الجودة، وتذهَب إلى الإعلان عن استقطاب أكاديميين من خارج البلد، بعضهم لا يحمل نفس مؤهلات أبناء البلد، أين يذهب هؤلاء؟ هل يهاجرون خارج الحدود بحثا عن فرص للتوظيف ومؤسسات بلدهم التعليمية تفتح أبوابها لغيرهم، ولا تخجل من أن تعنون إعلانات التوظيف بعبارة "لغير العمانيين"؟
إنَّ عبارة "لغير العمانيين" لا يُمكن أن يجرؤ أحد على وضعها في الإعلانات إلا الذين يضربون بمصالح البلد ليس بعرض الحائط، وإنما لا يقيمون لأبنائها وزنا في خططهم وسياساتهم، خاصة وأنَّ كثيرًا من الكفاءات الوطنية تحمل نفس المؤهلات وتتطلع إلى فرص عمل؛ وبالتالي هذا هو وقت ليس للمراجعة، وإنما لفتح تحقيق واسع حول ما يجري في هذا القطاع، فمثل هذه العبارة فيها انتقاص من المستوى الذي وصلت إليه الكفاءات الوطنية. ما يجري هو تلاعب بفرص الموارد البشرية الوطنية، ويجب البحث عن المسؤول عن هذا، فلابد من وجود مرجع يمكن الحديث معه حول سياسات التعليم؟ لذا ما يجري هو نتاج تراكمات، وما قضية إنهاء عقد المحاضر محمد الشماخي إلا نِتاج هذه التراكمات، وهي تعبِّر عن الجرأة والقوة التي تحملها هذه الشركات نتيجة استنادها إلى دعم خفي من أطراف لها وزنها وثقلها؛ وبالتالي قد لا يعنيها هذا الغضب الذي يجتاح الرأي العام، والذي يشعُر أن كرامته وليس كرامة محاضر واحد قد جُرحت جرحا بليغا لا سبيل لإيقاف نزيفه إلا بإنهاء هذا العبث الذي يجري منذ سنوات، ويقدم على أنه حكمة من قبل متخذي القرار، تحت مبرر أنهم يجنبون أنفسهم نفقات وأعباء زائدة؛ هل إبعاد أبناء البلد المؤهلين والباحثين عن عمل عن هكذا فرص حِكمة؟ لا شك أنَّ لكل أناس حكمتهم ومنطقهم، لكن في الواقع هذه حكمة لا يريدها هذا الوطن وأبناؤه لأنها تسلب منهم مستقبلهم ووظائف عدة فتحت لغيرهم، وكان التعاقد مع بعضهم مجرد جزرة ليس إلَّا لشراء سكوتهم على هذا العبث، وإن كانت هناك حكمة من ذلك وفوائد فليخرج أحدهم ليوضحها لنا بدقة ويقدم كشفَ حساب لفوائد إطلاق يد الشركات لاستقدام محاضرين من خارج البلد وتجنب التوظيف المباشر للعمانيين، ولا أعتقد أنَّ ذلك مُمكن؛ لأنَّ مثل هذا الإجراء هو جزء من خصخصة التعليم التي لم تقدم لنا اليوم أي مؤشرات للنجاح منذ انطلاقاتها مما يزيد على عقدين؛ وسامح الله أولئك الذين ورَّطوا البلد بهكذا مشورة، وأولئك الذين ذهبُوا وأكملوا هذه التوجه، ومكنوا الخصخصة في بلد لا يزال بدون قوانين للتعليم، وبدون هيئة للمحاسبة، وبدون مرجعية تمسك بخيوط كل شيء وتتخذ القرارات والسياسات التي تفيد الوطن وأبنائهم وترقى بهم.