ضي القمر وتنهيدة القلب!

مدرين المكتومية

القمر بالنسبة لي ليس ذلك الجرم السماوي الذي يضيء الأرض، ولا ذلك البدر المُبهج الذي يبعث في النفس التفاؤل والسعادة، بل هو صوت هادئ يتخلل مسامعي كلما نظرت إليه بعيني، ووجه يشع بهاءً تخترق أسنته أنحاء جسدي، فيزلزل مشاعري، ويحرك في نفسي الأحاسيس الرائعة.

عندما أنظر إلى القمر اتخيّل نفسي طفلة فشلت كل محاولة لإضحاكها، وفجأة استجابت لمداعبة أمها فضحكت لتُدخل السرور والبهجة في نفسها. فما أجمل القمر عندما يكون بدرا، نرى في بياضه الأخاذ ذكريات يتنهد لها القلب كما تداعت في مخيلتنا، لاسيما ذكريات الطفولة الجميلة في الأحياء والأزقة والطرقات الطويلة، واللعب مع الأصدقاء، حيث لا أحقاد ولا غيرة بمعناها السلبي، فقط مشاعر الأنس تظللنا تحت ضوء القمر، تدخل في قلوبنا الطمأنينة، نواصل السهر في هذه الأجواء الرائعة، لنخلد بعدها إلى نوم هادئ، تداعبنا فيه أحلام جريئة بمستقبل أكثر ازدهارا على كافة المستويات.

كنتُ في صغري أنظر إلى القمر وأسير على قدميّ برفقة أبي، اتطلع إلى السماء فأظنه يرافقني ويمضي معي أينما ذهبت، كنت - مثل جميع الأطفال- أظن أنّ القمر يمشي ويتتبع خطاي، وكنتُ أسعدُ لذلك، ظنًّا منّي أنّه يقصدني أنا بمفردي، دونا عن سائر البشر، لكنّي عندما كبرت وأدركت أنّ القمر يسبح في فلكه الذي سخره الله له، امتزجت مشاعري بين الاندهاش بقدرة الخالق سبحانه وتعالى، وبين خيبة أملي في أن القمر ليس ملكي وحدي كما ظننت!

كلما أطلّ ضوء القمر بانعكاسه في موعده كل ليلة، أجدني أسابق الزمن مسرعة إلى النافذة أو خارج المنزل، كي أطيل النظر إليه، وأقتبس من ضوئه طاقة إيجابية تشجعني على التخلص من متاعب يوم عمل طويل. أنظر إلى القمر فتختلط مشاعري، أتخيّل حياة أخرى مع أشخاص آخرين تحلو معهم الحياة، تمر من أمامي مقاطع تصويرية من مواقف أتوقع حدوثها، فأتردد في مواصلة النظر إلى القمر خشية أن أظل بين أحلام اليقظة.

القمر لدى العشاق والشعراء ومنذ القدم مثّل لهم منبعا للمشاعر الجميلة تجاه معشوقيهم، فهو بالنسبة لهم آية في الجمال والفتنة، وهو وصف للمرأة الجميلة، فأي جميلة هي مشروع لقصيدة يكتبها شاعر ويطلق عليها "القمر".

عندما أجد نفسي وحيدة فلا مكان لي سوى أن أذهب إلى البحر فأحدق بعيني لأرى انعكاس ضوء القمر على صفحة الماء في الليل، أنظر إليه بكل حب وافتتان كعاشق حائر في أمر من يحب؛ وهو ينظر إليّ بكل هوس، ويرسل بعضا من ضوئه باتجاهي. في كل مرة يطل فيها عليّ آخذ بعض أشيائي وأرحل إلى الناحية الأخرى.. أبحث عن أسطوانة الأغاني حتى استمع خلالها لمقطوعة بيتهوفن "ضوء القمر" أو أغنية فيروز "نحنا والقمر جيران".. ويا له من شعور رائع، عندما يكتمل جمال ذلك المشهد برؤية الحبيب أو الصديق المخلص أو الأب الحنون أو الأم الرؤوم، بجانبي.

ومن أروع المعاني التي قرأتها من قبل عن القمر أنّه في عدد من اللغات مشتق من الجذر "Luna"، والمدهش في هذا الجذر أنّه يصنع كلمة أخرى "Lunatic" وتعني المجنون، فعندما نصف شخص بأنّه قمري فهذا يعني أنه مجنون! وأعتقد أنّ تفسير ذلك مرده إلى أنّ القمر يخلق في وجدان الإنسان حالة من السحر النفسي ويأسر القلب، فلا يعود المرء يتحلى بالعقل بعدما يصيبه داء القمر، والمفارقة هنا أنّ هذا الداء لا يسبب ألما أو أعراضا جانبية، بل يمنح المرء مشاعر جياشة تجعله يعيش أحلى لحظات العمر.

القمر- يا أصدقائي- له تأثيراته المختلفة على الإنسان، كل حسب ما يراه من منظوره الخاص، هناك من يرى فيه الحب والعشق والوله، وآخرون يرفضونه لأنّه يجلب عليهم الحزن والهم، وبين هؤلاء وهؤلاء لا نجد سوى المشاعر والأحاسيس تغمرنا في الليالي القمرية، فلا نجد سوى تنهيدة القلب لنعبر بها بصمت عمّا يدور في دواخلنا.