قصة قصيرة: فِي مَقَامِ أَن تَحِزْنَ وَحْدَكَ


د. حسام إلهامي | مصر

(1)
نحن البشر حتفنا في اشتياقنا! في تعلقنا بالأشياء، في انجذابنا لها، في مطاردتنا العبثية لظل يقين يتأرجح دائمًا بين شكين؛ شكٌ في إمكان الفقد، وشكٌ في إحتمال النوال.  
برغم عزلته والحيطة من آفة اشتهاء ما لا نوال له، وقع فيما كان يحتاط منه، وكان ما كان، أو لنقل كان ما لم يكن.  
حياته كانت غريبة، واختفاؤه أشد غرابة. حضور واختفاء لم يشعر بهما أحد. أثره فيمن حوله لم يكن ليعدو أثر جناح فراشة في الغلاف الجوي، فغاب دون أن يبحث عنه أحد. وحدي قررت البحث عنه، بعدما أسرَّ ليّ بكل شئ.
أطالع الآن آخر ما خطه من أوارقٍ في دفتره الشخصي قبل أن يختفي. حتمًا سأجد بين السطور ما يشير إلى سر هذا الإختفاء الغريب.
(2)
هذا نص ما كتب عن نفسه..
كان من ساكني هوامش وأورام المدن التي يتطلب إعمال المنطق إزالتها، وإبعاد من فيها إلى اللامكان. بمجرد أن وعى الأشياء من حوله، كره الوعي وكره الأشياء، فقر تدبر له المكائد ليل نهار لكنه يظل عنيدًا مكابرًا لا يبارح موضعه. شاهد كيف أن الفقر يخرج أسوأ ما فينا، وكيف يهبط بنا لمرتبة أدنى مما تهبط به الغريزة.
تَحمَّلَ الفقر، ولكنه لم يكن ليتحمل تلك الصدمات المتتالية التي تلقاها محمولة على أسنة الكلمات والنظرات والإيماءات، معلنة في قسوة غرابة هيئته، وضعف تقديره للأشياء، وجلوسه الطويل صامتًا بلا حراك أمام هدير الحياة.
بمجرد إدراكه لكل ذلك، وبعد تفكير عميق، قرر أن يعتزل محيطه. قنع بحياة رتيبة، إخلاص للاعتياد، سيرٌ في رِكاب السائرين، ردود فعل باهتة، كلمات مقتضبة. إذعان صامت لرغبات الآخرين، انكسار في غير مذلة، حزن كامن في عين زابلة، زهدٌ في الجدل، ترفع عن اللهاث خلف أشياء العبث ذاته أكثر منها رشدًا. كان قانعًا بكل ذلك ولا يرغب في تغييره حتى كان ذلك اليوم الذي وقع فيه ما وقع، وقلب حياته رأسًا على عقب.
(3)
بدأ الأمر برسالة اقتحمت بريده الإلكتروني. دعوة باسمه لحضور لقاء سيجمع زملاء دراسة الجامعة بعد 10 سنوات من التخرج.
طالع الرسالة عدة مرات ثم أغلق شاشة حاسبه المحمول ببطء، ضربات قلبه فرضت سطوتها على إدراكه. كان الجرح قد صار نقشًا أثريًا، فجاءت تلك الرسالة لتفتحه في ساديةٍ مفرطة.
تساءل: كيف تذكروه؟! كان أقلهم تواصلاً وأكثرهم اختفاءً، وحتمًا أقلهم شأنًا بعد أن رضي بأول وآخر وظيفة عُرضـت عليه، وسيبقى فيها للمعاش أو للممات؛ أيهما أقرب!.
تردد طويلاً في قبول الدعوة، أيذهب ويغامر، ويثأر لنفسه؟! أم أنها ستكون القاضية التي تكسره مجددًا؟! أيسمح بقرار منه أن يمد أحدهم يده إلى قلبه ثانية ينتزعه منه بلا رحمة؟! أم يذهب لإنه سيراها، فقط سيراها؟! ماذا يفعل؟!
بشكل لا شعوري وجد نفسه يفتح شاشة الحاسب، وينقر ردًا يُشي بقبول حضور اللقاء. قبل الدعوة وهو يُضمر في نفسه أمرًا.
(4)
جادت عليه الذكريات بأسوأ ما فيها، ألح على وعيه المضطرب ما جرى له قبل أن يقابلها، فقبل أن يراها بأشهر قليلة مرَّ بتجربةٍ غريبةٍ. كان في آواسط مراهقته، السن التي تقف بنا على عتبات كل شئ في لحظة واحدة؛ أجسادنا، أرواحنا، الكون المحيط بنا، العلة والسبب والغاية، العقل والجنون، التهور والجبن، الزهد والطموح، الاندهاش والسؤال، الحيرة واليقين، فقدان الذات والبحث عنها، العشق والانكسار.. كل شئ دفعة واحدة في لحظة لا رحمة فيها.    
بدأ الأمر بمسٍ من القراءة، ابتلعته بطون الكتب، غاص في روحه، تعبد في محراب الصمت، استعمل كل أشكال القياس العقلي، كي يقف على حافة من يقين. تمرغ في خيال الأدباء، جُن بمجادلات الفلاسفة، بحث عن منطق في التاريخ، وبحث في التاريخ عن منطق للواقع، تشبث بأي خيط يؤكد له أن ثمة نهاية لكون بدا فجأة فاقدًا للنهايات.
صار الوجود في عقله مليئًا بالثقوب والبثور والتشوهات والنقائص، فقرٌ هنا، فسادٌ هناك، تسلط وعبودية، شقاء وآلام، عبثية وعدمية وعقلانية، خرافة ومادية وسادية، وثنية وصوفية.. أشياء أكبر من استيعاب بشر.
برغم العناء، عاد من رحلته العقلية بنفسٍ ارتقت في مراقٍ شاهقة، قليل من أُسْرِيَ به إليها، وكأنه قد صار شهابًا ثاقبًا أفلت من الجاذبية الأرضية. ثقب أسود لا هم له إلا ابتلاع الجمال. دليل على امتزاج الواقع بالخيال، النقص بالمثال، المادة بالروح.
وحين رآها لأول مرة كان لتوه عائدًا - في سرية تامة - من تلك الرحلة العقلية منهكًا، مملوءًا بالحزن، غائصًا في التأمل لأذنيه.
(5)
لحظة المواجهة بينهما هى أشد ذكرياته إيلامًا. وهو على عتبات الألم تذكر ما قرأ للعالم والفيلسوف الفرنسي دوركايم الذي بحث في علاقات البشر، فوجد أننا غالبًا ما نعشق أحد القريبين منَّا مكانًا، أحد من نراهم ونسمع أصواتهم. سأل نفسه يومًا؛ تُرى لو كان في مكان أو زمان آخر، أكان يجري له ما جرى؟!
عاد بالذاكرة لذلك اليوم، إلى الجامعة.. فبعد أنَّ ظل عامين منكبًا على الدراسة رآها في السنة الثالثة، تحدث معها حديثًا عابرًا. تكررت اللقاءات والأحاديث العابرة. وجد نفسه يفتعل المواقف ليتحدث معها. ينتظر لقاءها، يخطط له، يفكر فيها ليل نهار إلى أن قرر البوح.   
شئ غامض يبعثه الشتاء في قلوب البشر. يوقظ خلسة أحاسيس الحب والإقبال على الحياة والأمل في نوال الأشياء، في ذاك اليوم الشتوي داهمه شعورٌ آسرٌ بصفاءِ ونقاءِ الوجود الذي صار فجأة بلا شائبة تشوبه، أو إعوجاج يكدر صفوه، كأنما خُلق على ما نهوى. حتى الشر والإثم والقبح والألم والشقاء.. صارت كلها أشياء يمكن التسامح معها.
مصادفة وجد نفسه بقربها. كانت تنتظر في فناء الكلية المحاط بخضرة ممتدة تتلقى رذاذ المطر، بدأت تتحدث. كان يسمع قولها مختلطًا بدقات قلبه الذي يود لو يفرغ ما فيه على شفتيه. فعل شيئًا لا شعوريًا، نطق لها الكلمة من أعماق روحه.
"أحبك".
.................
يمتلك الصمت الكامل أحيانًا دويًا مقبضًا، لاسيما حين يصمت من إن نطق انتقل بنا إلى مملكة السماء. يرتد إليه الصمت لعينًا. يتضاؤل الأمل تدريجيًا. ابتسامة غامضة منها يُغلفها خجلٌ مصطنع. تخلصت من بعض خجلها غير المتقن وبدأت في الرد..
"أنت........."
لم ينصت لما قالت بعد، ولا يتذكره، وَصلهُ المعنى، نقلهُ على الفور من سجل الأحياء إلى قائمة أشباه الموتى. أدرك معنى أن تبنى الأشياء في سنوات وتنهار في ثوانٍ. كل ما كان يفصل بين الحياة وشبه الموت ثوان! كلمة تخرج من فم إنسان! كلماتها كانت كالموت الرحيم الذي يقع دون أن يفعل أحدٌ لك شيئًا إلا أن يفصل عنك أسلاك الإمداد بأسباب الحياة!!.
(6)
بعد تلك اللحظة شئ ما سيضيع فيه، تملكه شعور بأن نفسه تتفتت إلى ذرات، ذرات كثيرة لا يمكن حصرها، كل ذرة تشع نورًا، تعلو منتشية راقصة، ثم تهوي في قاع سحيق مظلم من نفسه فاقدة طاقتها النورانية.
في أعقاب تلك المواجهة المصيرية في حياته سار مسافة لا يدري مداها، استرد بعضًا من وعيه، فوجد نفسه وسط المدينة. لسبب يجهله قرر أن يسكب نفسه وسط الجموع، ذاب كقطرة في سائل الزحام؛ افتعل حديثًا مع المارة، تأمل واجهات المحال، شاغب مع الباعة، فاوضهم في سعر أشياء لا يحتاجها، جلس على المقهى العتيق، ضحك على نكات كهوله، شاركهم جلستهم، اكتشف أن أجمل ما في مدن مصر هؤلاء البشر الذين يتعاونون دون قصد لحمايتك من الأحزان.
يومها انبثق في رأسه سؤالٌ لم يبارح عقله: لمَ زُرِع فينا الاشتياق والتعلق ما دمنا لن ننال؟! وعلى أي نحو ووفق أي قانون ينال من ينال، ويُحرم من النوال من يُحرم؟! ولمَ خُلقنا ضعفاء على هذا النحو، أضعف من أن نتحمل فقد الأشياء بعد التعلق بها؟!.
(7)
مرت بعد تلك الواقعة أيامٌ لا يعلمها. حاول أن ينسى، انشغل بدراسته، بعدها انكب على العمل لساعات طويلة يقتل فيها الإرهاق الإحساس بأي شئ. وضع نصب عينيه أن يكنز المال، انشغل بإدارة مدخراته الهزيلة، دبر المكائد والدسائس لنيل درجة وظيفية أعلى، تابع فريقه الكروي، فضائح المشاهير، أفلام الزمن الجميل، ارتمى في بحر السياسة، وشغل نفسه بأخبارها، رغم علمه بانعدام أثره فيها وأثرها فيه. وبرغم كل ذلك. لم يتمكن من النسيان، فقد كان عشقه كالميلاد والموت لا يحدثان إلا لمرة واحدة، ولا يفر منهما أحدٌ!.
وفي فترة التناسي والهذيان تحاشى أن يطرق باب أي من كتبه يستصرخه أو يستنجد به كما كان يفعل في كل ملمة تلم به. داخله شعور بأن كل الحروف التي ابتعلها لم تجده نفعًا، عجزه لن تداويه الكتب مهما قالت.
(8)
برغم كل شئ تمر الأيام. تفقد الأحزان أوزانها الذرية. سار على قضبان الأيام ذهابًا وجيئة بلا هدف أو نقطة للوصول، حاملاً حزنه العالق في سقف الروح.
تزوج، أو "تزاوج" كسائر الكائنات الحية! كيف؟َ! ومتى؟! وممن؟! الإجابة جسد راقد بجانبه تفصله عنه في الطباع والتفكير والطموح والفعل بُعد المشرقين.
دهشة الزوجة لم تكن أقل من دهشته، غير أن كلاً منهما كان يداري ما بداخله، ويرسل النفور والاغتراب في رسالة مشفرة على الوجه والجسد قبل الكلام. عبرت الزوجة عن نفورها بعدة لغات شملت البكاء والنحيب والسخط والتعال، والمغالاة في طلب الأشياء، والشكوى الدائمة من كل شئ ومن اللاشئ، فلم يذق من الزواج طعمًا للجسد، أومذاقًا الروح.
شئ منه تحرك في أحشائها، شعور الزوجة باحتمالات تأبيد العلاقة بينهما زادها سخطًا وبكاءً ونفورًا. جاء الحل منها. صارحته بأنها كانت تهوى قبل الزواج منه إنسانًا لا يكترث بها، وأنها لم تعد تحتمل العيش معه وتريد الانفصال.
طلقها وتركت له الفتاة. علم أنها ذهبت لمن عشقت ضارعة، جاثية على أطراف مشاعرها وتزوجا. حذروها من أن زواجها منه سيعيد الطفلة إلى طليقها. حاولت مساومته، رجاها أن تترك له الفتاة لم يكن يتصور حياة بدونها. لم تقاومه أعطته الفتاة، وسافرت مع زوجها، ولم يسمع بخبرٍ عنها بعد ذلك.
(9)
بصعوبة سكب سائل الذكريات، واستعاد رهبة اللحظة الحاضرة، رهبة اللقاء المرتقب. على صفحة المجموعة وجد أنها أكدت حضورها. عزم على النزال بشجاعة، أخيرًا سيثأر لكرامة أهدرت وأيام انسابت من بين أصابعه. سيثأر لانْزِواء طويل في ركن مظلم من نفسه ملفوفًا بمشاعر الدونية، وقلة القيمة والقامة منذ رفضته.
وصل إلى مكان الحفل استشف من "ماركات" السيارات التي حاصرت المكان المستويات التي سيقابلها، علامات التأنق المبالغ فيه بادية على الجميع، حلقات صغيرة من صداقات قديمة شاحبة بدأت تتخلق، انضم إلى حلقة منها. سرعان ما فقد شهيته للكلام، تشغله الثرثرة عن مبتغاه، حلقات الحديث أيضًا بدأت تلفظه، إذ لا ذكرى واضحة له مع أحد. انفصل عن الجموع. أجري مسحًا ذريًا للمكان، لم يعثر لها على أثر. هَمَّ أن يغادر. وجد في عدم مقدمها هروبًا مشرفًا من المواجهة.
بحث بعينيه عن أقرب مخرج. تجمد في موضعه. هاهي تدخل من بوابة الحفل. طيف يتحدى النقص في الأشياء. تنهار معه قوانين الزمان والمكان والحركة، وكل فيزياء الكم. ابتلع ريقه ممزوجًا بعصارة روحه، دقات قلبه تكاد تشق قفصه الصدري، يتحول عرقه إلى حالة البخر برغم الشتاء.
أبعد نظره عنها، هى من يجب أن يأتي لمصافحته. لن يُلدغ من قلب مرتين. أدار ظهره، لم يعد يراها، فقط يسمع وقع أقدامها. تساءل ماذا عساه أن يفعل لو واجهته، سددت عينيها في عينيه، مدت يدها لمصافحته؟!!
مرت فترة طويلة. شعر بتجاوزها للموضع الذي يقف فيه، نعم، تجازته دون التفات، يحاول أن يستوعب، أن يمتص الصدمة. استعاد الزمن الطبيعي بعضًا من حضوره، انتبه لشئ لم يلتفت إليه في غمرة التمني، ذلك الرجل الوسيم المتأنق الذي تتأبط ذراعه بقوة!!.
بشعور أسمى من البكاء والحزن، وفوق عتبات الألم تسلل على أطراف مشاعره خارجًا. سار تحت رذاذ المطر، انتبه ليجد نفسه مستندًا بجسدٍ وأشلاء روح قرب الفجر إلى شجرة على ضفة النهر، يعبث بقدميه بأوراق ذابلة قضت لتوها نحبها، تأمل صفحة الماء، فضاء الكون، تصاريف القدر. راجع بعض أسئلته الفلسفية: لماذا؟ وكيف لنا أن نهيم عشقًا إلى حد الجنون بمن لا يشعر بوجودنا؟! لمَ كُتِبَ علينا العشق، ذاك الدرب من العقاب البشري؟! وعلى أي نحو رسمت خرائطه ومنحنياته وخطوطه الواصلة بين أي نقطتين؟! ما الذي يقارب أو يباعد بيننا؟! يجمعنا ويفرقنا؟! على أي نحو يُقسم العاشقون إلى مراتب وطبقات؟! وفق أي قانون يجري العشق؟! ووفق أي منطق؟!
(10)
لم يدر كيف انتقل من الشارع للبيت، وكم استغرق سيرًا في طرقات مدينة لا تنام. عبر مدخل الشقة إلى غرفتها. لم يضئ الأنوار. وقف يتأمل وجه الصغيرة. قبلها في جبينها. استفاقت. طوقت عنقه بيديها الصغيرتين، قبلته في وجنته، ابتسمت له فابتسم شطر من دنياه.
- أريد أن أخرج
بصوت يغالب الحزن..
- سنخرج معا، سنلف شوارع المدينة، سنرى الفجر والندى يغطي الطرقات، سنجري ونلعب ونأكل ونلهو ونضحك مع الناس، هيا انهضي..هيا لنخرج الآن، لماذا لا تردين؟!!
لا رد ...
لماذا لا تردين؟!!
لا رد ...
(11)
    هذا آخر ما كتبه قبل أن يختفي.
قالها المحقق وهو يَطوي الدفتر الذي كان يقرأ منه، ثم وجه كلامه لي:
    حكى كل شئ، إلا شيئًا واحدًا؛ كيف وأين ذهب؟! لقد وجدنا هذا الدفتر في منزله ونحن نفتش، دوّن ما فيه قبل أن يختفي. تواريخ التدوين تقول ذلك. التحريات تقول إنك كنت الأقرب إليه، وكان يتردد عليك. فهل ما جاء بالدفتر الذي عثرنا عليه في حجرته صحيح؟
أجبت بأسى:
    نعم، كنت الأقرب إليه.. كان يتردد على عيادتي النفسية، ويحكي لأول مرة في حياته ما جرى له وما يشعر به.
استدرك المحقق..
    ولكنك لم ترد على سؤالي .. هل ما جاء بهذا الدفتر صحيح؟
    بعضه صحيح.. والباقي صحيح من وجهة نظره فقط.
    ماذا تعني؟!
    أعنى أنه حين جاءني كان يكذب على نفسه، كان يعاني من هلاوس سمعية وبصرية. صدمته في الحياة والحب جعلته يتخيل أشياءً لا وجود لها، يتخيل أن الصوت الباطني المنبعث بالأفكار والمشاعر من اعماقه ليس صوته، بل أصوات تكلمه وتناجيه، والأخطر أنه كان يتخيل أن ما يتمنى في أعماقه قد تحقق، كل ذلك ببساطة لأنه لم يكن يصدق أنه السبب في مقتل ابنته الوحيدة.
    كيف؟!!
    كان يتخيل أنه تسلم رسالة تدعوه لحفل سيجمعه بالفتاة التي أحبها، وأنه ذهب لذلك الحفل، ولم يستطع التحدث إليها، وعاد للبيت حزينًا، وكانت تنتظره طفلته الصغيرة من طليقته التي تركته وتزوجت بغيره وسافرت. وبعد أن تخيل ذلك خرج بالطفلة إلى مكان ما، ولا أدري إن كان صدفة أم خطط لذلك، لمح الفتاة التي كان يعشقها تسير مع زوجها، فما كان منه إلا أن جذبها من يدها بشكل هيستيري. فاشتبك معه زوجها، وأخذ يضربه ويركله وسط صراخ الصغيرة، ولما وجد الزوج أنَّ ذلك لم يجد معه نفعًا، وأنه مازال متشبثًا بيد زوجته بجنون أخرج الرجل مسدسًا كان يحمله، وعاجله بطلقة أخطأت طريقها واستقرت في قلب الصغيرة، وسرعان ما أسلمت الروح، صمتت تماما وصمت معها كل شئ، وصار هو إلى تيه وهذيان لم يجد معه علاج، حتى اختفى ولم يعثر له أحد على أثر.
واصلت كلامي وسط ذهول المحقق..
    لم اتعامل مع الأمر كطبيب نفسي، خاصة أني علمت أن أحدًا لم يفكر في البحث عنه لعزلته، فأخذت أبحث عنه في كل مكان منذ إختفى. فهل وجدتموه؟
    وجدناه.. ولكننا وجدناه جثة، ووجدنا معه هذه الأوراق.
    كان يحلم بكتابة رواية.. هاهو كتب قصته في شكل رواية مليئة بأسئلته ومشاعره.
سألوني كثيرا كثيرًا بعد ذلك؛ أهو انتحار؟ أم قتله أحد بعد تلك الواقعة؟ أجبت بما أتوقع. لم يكن يهم عندي قتل أم انتحار، المهم أنه مات بجسده بعد أن كان ميتًا بالروح. الموت هو الشئ الوحيد الذي اشتاق إليه وناله.
صرحوا بدفن الجثمان. كنت من نزل معه القبر، أزحت الكفن من فوق وجهه. كان وجهه ساكنًا متجمدًا مستريحًا. أيكون قد وجد أخيرًا إجابة على أسئلته؟! أم أنه اجتمع بمن أحب؟!!  

 

تعليق عبر الفيس بوك