مؤشرات نُضج الأمة

د. صالح الفهدي

نُضج الأمم يُقاس بناءً على مُستوى نظراتها للقضايا، وطُرق نقاشاتها، وأساليب تحاورها، واتساع صدور علمائها لتقبُّل الأفكار المخالفة؛ فكلما ارتقت في نظرتها للقضايا مدار الاهتمام، وسمت في طرق النقاش والحوار، دلَّ ذلك على نُضج الأمة، ووعيها الثقافي، وعلى العكس من ذلك؛ فكلما أولت اهتماماً لقضايا تافهة، فأبرزتها على السطح، وجعلتها مدار اهتمام العقول، وأشغلت بها نقاشاتها وحواراتها، وأهملت القضايا المصيرية الكبرى، فإنها تكون قد قدمت البراهين على ضعف وعيها الحضاري!

وتطبيقاً لذلك على أمتنا، نجدها قد أُشغلت بصغائر الأمور وتوافهها عن قضاياها الكبيرة، وللأسف فإن من أشغلها بالتوافه يتسنَّمون قيادة الأمة سياسيًّا ودينيًّا وفكريًّا! لقد أولجوها مسارات حرجة لم تعد معها تفكر إلا في الأمور الصغيرة؛ قلَّصوا سعة الدين، ورحابة سماحته، إلى مساحات ضيقة جعلت من الدين أقرب ما يكون إلى مُقرَّر دراسي لا يجوز لك الخروج فيه عن الأسطر المقررة لك حِفظاً ودرايةً حتى لا تنال عقاب الفهم والتفكر..! فإذا طرحت رأياً في مجال تطبيق الشريعة وجدت من يهاجمك في شخصك، ولا يناقشك في فكرك..! وقس ذلك على السياسة والفكر فيما يتعلق بإقصاء رأي الآخر، وتهميشه، وانظر إلى التعقيبات التي تأتيك حينما تطرح رأياً فإنك تجدها وقد تجاوزت الفكرة إلى الشخوص، وأعرضت عن اللب إلى القشور، وما ذاك إلا دليلٌ على سذاجة العقل، وسخافة التفكير. وإذا ظهر مجددٌ في الفكر انشغل الناس في سبر نواياه، والتجادل حول طواياه، لا النقاش فيما يعرض من حجج وبراهين، فيتتبعون الشائعات التي تحاك حوله، ويقتفون التخريصات التي تثار عنه، وإذا برزت عالمةٌ تركوا علمها، وأهملوا إنجازاتها، وركزوا على أمور تتعلق بشخصها..! وإذا رأوا إنساناً في مسجد يصلي أغفلوا الفعل الأعظم الذي فعله بأدائه الصلاة وهي عمود الإسلام، وركزوا على ما يخرجه من الإسلام في هيئته، وبدأوا في إطلاق أحكام ليس لهم الحق في إطلاقها على البشر..! قدسوا الأشخاص حتى إنهم وصلوا في تقديسهم لاعتبار كل ما يأتي منهم على أنه الحق الصراح الذي لا يجوز المساس به نقاشاً أو تشكيكاً!

ولكي نفهم الإشكاليات الكامنة وراء هذه السذاجة، وهذا التسطيح، فإنه لا بد لنا أن نعي أن الإنسان -كما يرى مالك بن نبي- يعيش في ثلاثة عوالم؛ هي: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. ولكل حضارة عالم أفكارها، وعالم أشخاصها، وعالم أشيائها.

فالمجتمعات التي يشغلها الحديث عن الأشياء هي مجتمعات يطغى عليها الاقتناء، والاستهلاك، والتكديس والتمظهر؛ فهي مجتمعاتٌ تأكل لتعيش، وتكدس لتعوض نقصها، وتقتني لتباهي في المظاهر. أما المجتمعات التي يشغلها الحديث عن الناس؛ ماذا لبسوا، وما اقتنوا، وماذا فعلوا، وكيف تسير أمورهم، وماذا دار في بيوتهم، وما هي علاقاتهم، وبأي حال هي أطباعهم، فهي مجتمعاتٌ تدور في فلك الهرج والمرج، سقفها محدود الارتفاع، يتنشر فيها الحسد، والحقد، والرياء، والتملق، والغيبة، والنميمة، والنفاق الاجتماعي، وتتكالب عليها أمراض القلوب! أما ثالث هذه المجتمعات، فهي مجتمعاتٌ تشغلها الأفكار، فتثير الأسئلة تلو الأسئلة، لا تركن إلى قراءة تفسيرية لنص حتى تنتفض إلى قراءة أخرى، تطرح على نفسها أسئلة التغيير، تفكر في المستقبل، لا ترهن نفسها إلى قوالب جامدة متوارثة، بل تعيد إنتاج واقعها، وتصنع أفقها، تعنيها قيمة الفكرة بغض النظر عن قائلها، تبحث عن الحكمة أيًّا كان مصدرها.

إنَّ مجتمعات الأشياء تسودها الصبغة الطفولية؛ إذ إن الطفل هو من يعشق تملك الأشياء، ويصارع الآخر للاستحواذ عليها، وإبقائها في حيازته..! أما مجتمعات الأشخاص، فهي مجتمعاتٌ في مرحلة المراهقة، تُبهرها نجومية الأشخاص، مهما كانت أسباب هذه النجومية، ويدهشها ما لدى الآخر من غِنًى ورفاهيةً مهما كان مصدره، فتتقاتل من أجل التمظهر، وتتصارع من أجل التملك، وتتسابق من أجل الاستهلاك..!

في حين أن مجتمعات الأفكار هي مجتمعاتٌ راشدةٌ، ارتقت فوق الأشياء والأشخاص لتصل إلى آفاق الأفكار التي تعبر عن نُضج العقل، وحكمة الضمير؛ حيث تكاد تخلو من أمراض القلوب، وأشكال التمظهرات الخاوية، لا يشغلها فيها سوى واقعها، هويتها، وسائلها، غاياتها، تثير الأسئلة تلو الأسئلة من أجل تغيير الواقع، تنظر إلى المستقبل بطموح وقاد.

لقد بقيت بعض المجتمعات عند الصفة الأولى (مجتمعات الأشياء)، وتجاوزتها مجتمعاتٌ أٌخرى لتستقر في الصفة الثانية (مجتمعات الأشخاص). أما الثالثة فقد تجاوزت الصفتين لتصل إلى المرتبة الأعلى وهي "مجتمعات الأفكار".

ومن نافلة القول أن مجتمعاتنا قد انحدرت من عالم الأفكار الذي أوصلتها إليه رسالة الإسلام، فترتد لتعيش في عالمين اختلطت فيهما معيشتها؛ هما: عالما الأشخاص والأشياء..!. الإشكالية أنها تحسب أنها قد تغيرت، بينما لم تحرك ساكناً عدا أنها كانت تغير أثوابها، والمركبة التي تركبها!! فإذا سألت نفسها بعض أسئلة عميقة، صدمتها الإجابات، وأدهشتها التفسيرات! وأخلُص إلى القول بأنَّ مجتمعات الأفكار هي التي تمتلك عناصر الاستمرارية؛ لأنها أتاحت للعقل متسعاً للحرية في التفكير، والإبداع، والتساؤل. يقول مالك بن نبي: "لقد أرانا تاريخ ألمانيا الحديث، كيف أن بلدًا شهد الانهيار الكامل لعالم أشيائه قد استطاع باحتفاظه بعالم أفكاره أن يبني كيانه من جديد".

ولا سبيل لأمتنا لكي ترتقي لعالم الأفكار إلا بأن تتغير فيها منظومات التعليم لتشمل تحفيز العقل للتفكير الحر، الطليق، الناقد؛ لأن القيادة السياسية والفهم الديني وإدارة شؤون المجتمعات، وحركة الاقتصاد إنما هي نواتج للتعليم، فإن تحرُّر التعليم من ربقة "التعليم البنكي" والحشو الذي لا جدوى منه أطلق العقل نحو فضاءات التفكر والتدبر، فأصبح حريًّا به أن يفكر في القضايا الكبرى للأمة، ويتجاهل التوافه من الأمور التي قد وقع فريسةً في أخلاطها آماداً طويلة..!