إصلاحات سياسية

 

محمد علي العوض

عندما دانت السيطرة لخلفاء بني العباس بعد إطاحتهم بالأمويين ودولتهم أخفى الأواخر أنفسهم خوفًا من بطش الحكام الجدد، وتحسبًا للثأر منهم بسبب ما لقوه من عسف وتنكيل على يد الدولة السابقة..

حاول عبد الله بن علي العباسي، عم الخليفة العباسي الأول "السفاح" في عام 132هـ إزالة هذا الصورة المتشائمة، وسعى لتهدئة روع بني أميّة؛ فأصدر عفوًا عنهم، وذهب أبعد من ذلك بدعوتهم لحضور مأدبة يقيمها احتفاء بهذه المناسبة وإيذانًا ببداية عهد جديد تسود فيه قيم الأمن والسلام..

وبالفعل، لبّى الأمويون دعوة العباسيين فرحًا بالعهد الجديد، ولكن بينما هم في مأدبتهم تلك رفع أحد الشعراء عقيرته صادحًا بأبيات ذكّرت النَّاس والعباسي وقومه بظلم بني أميّة، وقتامة عهدهم، وكيف أنّهم أذاقوا العباسيين الويلات ونكّلوا بهم، وشرّدوهم أيّما تشريد..

فعل الشعر في القوم فعل السحر.. هيّج أشجانهم وبعث ذكرى أيامهم السيئة وذكّى في النفوس نار التحريض والانتقام، فثارت ثائرة عبد الله بن علي العباسي وأمر بقتل ضيوفه من بني أميّة عن آخرهم.

لم تكن تلك الحادثة الدمويّة هي النكبة الوحيدة بل كانت واحدة من عشرات المذابح التي نفّذها العباسيون انتقامًا من الأمويين وأيّامهم. حيث أعمل "السفاح" -أول خليفة عباسي- آلة القتل في كل من تبقى من نسل بني أميّة من أولاد الخلفاء وغيرهم، ولم يفلت منهم كما يقول د. محمود خليل إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس كعبد الرحمن الداخل مثلا.

هذه المذبحة وغيرها من مظاهر انتقام العباسيين قام بنو أميّة بغرس بذورها الأولى وتثبيت جزورها قبل حوالي 30 عامًا، فقد جعلوا كما يقول محمد صلاح -ساسة بوست- أمر وقوعها حتميّة تاريخية حين أجهضوا بالسم كل المحاولات الإصلاحية التي قام بها الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، ولو قُدّر لهذه الإصلاحات السياسية أن تجد من الوقت ما يكفي "لمثّلتْ إعادة تأسيس شاملة للدولة الأموية" ولأزالت كثيرًا من الاحتقان والحنق ومظاهر الاستبداد الأموي.

ورث الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز حين جلس على كرسي الحكم تركةً دم ومظالم ثقيلة خلّفها حكام بني أمية ومن سبقوه، كما تركوا له دولة قمع تدار بالسيف والدسائس التي أوجدت كمًّا كبيرا من الناقمين عليها؛ فدماء الحسين لم تجف بعد وما زالت رطبة قانية تخضب سفوح كربلاء، وأطلال مدينة الرسول الكريم لم تنس استباحتها، أمّا شعاب مكة فقد كانت شاهدة على محاصرة الحجاجَ بن يوسف أكبر قادة بني أمية لعبد الله بن الزبير في الحرم قرابة سَبعَةِ أشهُر ورميهِ بالمنجنيق.

كل هذا وأكثر تُرِكَ دينًا كما قلنا وتركة دم في رقبة ابن عبد العزيز، ولأنه قارئ جيد للمشهد السياسي ورجل دولة أصدر الخليفة الجديد بعض القرارات والإصلاحات السياسية التي كان يرى أنّ من شأنها تخفيف هذه التركة وفك الاحتقان السياسي والطائفي؛ وأول قرار أصدره كان تجريم سبّ سيدنا عليّ كرم الله وجهه، فقد فهم عمر أنّ الاحترام والتعظيم هو الطريق الوحيد إلى تطبيب جراح العلويين النفسية، وبالتالي يمكن لهذا الأمر أن يصنع ما يُعرف بالقبول النفسي الذي سيخفف كثيرًا من غلواء الطائفية والاحتقان السياسي والاجتماعي، الأمر الذي يُسهم في استتباب أمن الدولة. كما حاول رضي الله عنه مكافحة الفساد المالي والعبث بمقدرات رعيته المادية التي عاث فيها الخلفاء السابقون فسادًا وأكلا بالباطل والمحسوبية، فقد عرف قيمة المال العام، وعدم جواز التصرف فيه بلا ضابط أو رقيب، وكأنّه مال خاص للحاكم والمسؤول ينفقه كيفما شاء؛ ولإعادة الأمور إلى نصابها بدأ عمر بتطبيق الإجراءات القاضية بحفظ مال الدولة على نفسه وأهل بيته أولا؛ وبذا جعل من نفسه مثالا وقدوة، فالإصلاح والصلاح بعد أن يقر في النفس والقلب يبدأ من الأسرة بوصفها النواة الأولى، ومن ثمّ يذيع في بقية المجتمع؛ لذلك أمر زوجته بالتنازل عن جواهرها وذهبها لبيت المال؛ وقد فعلت.

كما أمر عليه رضوان ربي ببيع دواب مواكب الخليفة بما لها من جمال وأصالة وفصائل نادرة، ورد أثمانها لبيت مال المسلمين، واكتفى من كل مواكب الدنيا وبهرجتها ببغلة واحدة.. ولم ينس أن يشنَّ حملة ضارية على "القطط السمان" حيث أعاد كثيرا من الأموال المنهوبة إلى بيت المال؛ الأمر الذي جرّ عليه غضب أعداء كثيرين.

آتت هذه السياسة المالية والرقابية أكلها فتدّفقت الأموال إلى خزينة الدولة حتى تحول تعريف مصطلح الفقير إلى أنّه "كل شخصٍ يملك مسكنًا وخادمًا وفرسًا وأثاثًا". وأتبع ذلك بالسياسات الاجتماعية القائمة على التكافل ومساندة فئات المجتمع لبعضها ففي لفتة بارعة لحقوق الإنسان خصص لكل شخص كفيف قائدًا يقوده ويساعده، ولكل مريضين ممرضًا يرعاهما، ولكل خمسة أيتام أو من لا عائل لهم شخصا يقوم على شؤونهم وحاجاتهم.

وأمر بصرف الرواتب للعلماء والطلاب، وفكّ رقاب الأسرى، وإعالة أسرَهُم أثناء غيابهم، كما تكفّل بيت المال في عهده بتزويج الفقراء وإحصانهم.

ورتقا للنسيج الاجتماعي ومخاطبة قضايا الحرب بإزالة مسبباتها خاض عمر بن عبد العزيز حوارا طويلا مع الخوارج دعاهم فيه الجنوح للسلم ومقابلة الحجة بالحجة وإسكات صوت السلاح حقنا لدماء المسلمين. وقد ساهم هذا الحوار في تسكين ثورات الخوارج، ومنع وقوع العنف، وسقوط مزيد من الضحايا، والتفرّغ لبناء الجبهة الداخلية بمشروعه الإصلاحي القائم على العدل ورد المظالم ومكافحة الفساد ونهى الولاة عن أكل أموال الناس بالباطل أو ضربهم.

لم يحافظ الخلفاء الأمويون على إرث عمر ابن عبد العزيز وسيرته التي استمرت فقط سنتين وبضعة أشهر، ولم يتعهدوا ثمرة إصلاحاته بالرعاية والسير على نهجه، فقد "أتعب من جاء بعده" كجده الفاروق؛ فما لبثت أن عادت الأمور تدريجيًّا إلى ما قبل أيام ابن عبد العزيز، وأعاد الأمويون مسلسل الظلم وسحل خصومهم السياسيين والتنكيل بالعباسيين لاسيما آل البيت الكريم.

ونظراً لهذا الحيف لم يعد غريبًا تفنن العباسيين – بعد صعود نجمهم- في الانتقام من بني أميّة؛ الأحياء منهم والأموات فقد نبشوا قبر معاوية بن أبي سفيان وقبر ابنه يزيد، كما نبشوا قبر الخليفة عبد الملك بن مروان فوجدوا جثمانه سليماً لم تتلف منه إلا أرنبة الأنف، فأمروا بإخراجه وضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذر رماده في الرياح.