حميد بن مسلم السعيدي
يُمثل التعليم العالي المرحلة التعليمية المكملة للتعليم العام، وهي التي تُسهم في تهيئة وإعداد الشباب من أجل المشاركة في مسيرة التنمية الشاملة في الوطن، فهي تعمل على إعدادهم وتنمية قدراتهم وتهيئتهم للمشاركة في قطاع العمل، بحيث يكون قادراً على المساهمة في كافة القطاعات الحكومية والخاصة، لذا يُمنح هذا القطاع أهمية كبيرة من قبل الحكومة، التي تعمل على تقديم الدعم المالي والفني للمؤسسات التي يديرها القطاع الخاص منطلقة من أهمية الشراكة والأدوار الفاعلة لهذا القطاع في مساندة الحكومة في تحقيق الأهداف والغايات الوطنية.
إلا أنّ الواقع الحقيقي لهذا القطاع يعاني من العديد من الإرهاصات التي تؤثر على مدى كفاءته في القيام بأدواره الوطنية، خاصة ما يتعلق بالشق الإداري نظير تضارب المصالح الخاص؛ والتي تأتي في مقدمة اهتمامات الشخوص، وتصبح مصلحة الوطن ثانوية في التعاطي مع القضايا والتعامل معها بمبادئ العدالة والمساواة، فيصبح الفرد رهينة للعديد من القرارات التي لا تخدم العمل الوطني، فيعمل على محاربة الكفاءات الوطنية، ويرضخ للتحكم الخارجي الذي تديره المصالح الفردية، فيتضرر المواطن، ويصبح الوافد أو "الخواجة" هو صاحب العلم والمعرفة والمهارة، فيتم تغييب المواطن؛ بل ومحاربته، والعمل على إقصائه بكافة أشكال التغييب، وكأننا في صراع لإثبات الذات والبقاء لمن يمتلك "الشُّلل" والدعم الجمعي.
أين نحن من التوجيهات السامية لمولاي جلالة السلطان المعظم بتمكين المواطن العماني من العمل في كافة القطاعات وخاصة قطاع التعليم نظراً للأهمية الكبيرة في بناء الإنسان العُماني، إلا أنّ تلك التوجيهات لا ترى حيزاً من التنفيذ لدى بعض المسؤولين.
ما زال البعض يعتقد أنّ "الخواجة" حامل راية العلم والعمل والكفاءة والإخلاص، وما غيره لا يفقه شيئاً، وأنّ هذه الشخصية البراقة التي تحمل على صدرها تلك الهامة المزيفة هي التي سوف تصلح شأن التعليم بالبلد، وأنّ التعليم بدونه لا قيمة له، ولا مكانه فيه، ولا أثر له إلا على أيديهم، وعلينا أن نضع تلك المسلمات إيمانيات لدينا، نحاول أن نقنع أنفسنا بتلك الأكذوبة والتي يروج لها بعض المسؤولين الذي يخافون على مقاعدهم من الكفاءات الوطنية، فيعمل على استقطاب الوافدين من شتى بقاع العالم دون أن يميز بين الرث والسمين، وفي ذات الاتجاه يصيغ العراقيل والمعايير التي لم يأتِ بها من سلطان ولم يطبقها على تلك الفئة التي أتى بها من الخارج، قاصداً بذلك إبعاد العمانيين من أي مكانة لهم في التعليم العالي، إلا ذلك اليسر البسيط الذي يمثل نسبة قليلة في ظل العدد الكبير من العمانيين من حملة الماجستير والدكتوراه.
لا يقتصر الأمر عند هذا المستوى بل تعمل تلك الفئة على محاربة العماني في تلك المؤسسات والعمل على استقدام بني جلدتها بغيّة تكوين تجمعات وشلل تصف نفسها بأنّها المتميزة، لذا يرحل الكثير من العمانيين الذين تخرجوا من أكبر المؤسسات الأكاديمية تاركين المكان لهؤلاء بعد أن منحتهم القيادات بهذه المؤسسات الثقة العمياء فأصبحوا المسؤولين والمتسلطين والقائمين بكل شيء، فلا وجود للعُماني بحضورهم، لذا رحلت الكثير من الكوادر الوطنية عن المؤسسة الأكاديمية الأولى بالسلطنة والتي أراد لها جلالة السلطان المعظم أن تكون منبرًا للعلم والقيم والأخلاق والمبادئ السامية التي تنبثق من العقيدة الإسلامية وأعراف المجتمع العماني، إلا أنّ ما يحدث في كواليسها أمر بحاجة إلى التدخل والمعالجة لا شيء إلا لمصلحة هذا الوطن.
هذا الأمر لم يقتصر على المؤسسات الحكومية فحسب بل عمدت المؤسسات التي يديرها القطاع الخاص على انتهاج ذات النهج مستغلة انخفاض رواتب هذه الفئة والعمل على استقطابها، دون أن تدرك خطورة هذا الأمر، ودون أن تمنح المواطن العُماني الفرصة ليثبت جدارته، وغير مدركة لخطورة الدخل المنخفض لهذه الفئة والتي عملت على إيجاد دخل خاص لها من خلال الطرق والأساليب التي تخالف النظام والقانون، مستغلة الثقة التي منحت لهم، فأصبح التعليم العالي الذي يديره القطاع الخاص لا يُحقق تلك الرؤية الهادفة نحو خلق الأجيال ذات الكفاءة؛ بل أصبحت مخرجاتها ضعيفة لا تمتلك أدنى المهارات التي يحتاجها سوق العمل، لذا لا تجد من يعمل على استقطابها في الوظائف سواء كانت بالقطاع الحكومي أو الخاص، بعد أن أصبح التعليم العالي غايته المال والتجارة، فأصبح المنتج ضعيفًا فكريًا وقيميًا، ويمتلك شهادات وهمية لا يدرك معناها ولا يمتلك متطلباتها، فجلسة قصيرة مع مخرجات هذه الجامعات والكليات الخاصة أو غيرها تكشف الواقع المرير الذي يتعايشه هؤلاء الطلبة وهم يتحدثون عن قضايا خطيرة تتعلق بالقيم والمبادئ، قبل أن يتحدثوا عن إشكاليات خطيرة تتعلق بالتعليم، ومن يمر به من استغلال لهم من قبل البعض سواء كان استغلالا ماليا أو غيره، بغيّة تحقيق مآرب خطيرة تضر بمصلحة الوطن، وتهدم كل ما تمّ بناؤه على مستوى الحكومة أو المجتمع، لتكشف عن قضايا ووقائع في هذه المؤسسات ضاربة عرض الحائط كل القيم والمبادئ والأعراف بهدف تحقيق عوائد مالية لها بأي شكل كان.
إنّ ما يمر به هذا القطاع بحاجة إلى تقييم حقيقي بعيدًا عن المصالح الشخصية، والعمل على التعرّف على واقعه والاستعجال في إصلاحه أو إيقاف العمل ببعض هذه المؤسسات، فلا يمكن التضحية بمستقبل هذا الوطن لإرضاء شخوص بذاتهم، فنحن في مرحلة مهمة من البناء الفكري والمعرفي والمهاري لشباب الوطن، والشراكة في هذا القطاع بين الحكومة والقطاع الخاص بالرغم من التوجه المالي والتجاري في مقدمة هذه العلاقة إلا أنّ المصلحة الوطنية تأتي في أولويات هذه الشراكة وإذا لم تحقق أهدافها فلا حاجة للوطن بذلك.