مكانٌ خالٍ على مائدة يتيمة

 

مسعود الحمداني

 

الإهداء:

إلى أرواح كل الأحبة الذين رحلوا عنَّا وتركوا مكانهم خالياً على مائدة رمضان .. نسأل الله لهم الرحمة..

 

كانوا هنا في رمضان الفائت على نفس هذه المائدة، يسقوننا الماء، ويتناوبون الضحكات، يمنحون للصوم طعما آخر، ويجعلون الطعام أكثر بركة وسخاءً، كانوا أكثر من مجرد جسد يُشعل المكان وهجًا، وحبّا، كانوا أرواحا متوثبّة يمنحون الحياة طعمها، والسنوات ألوانها، لم يعودوا اليوم معنا، ساقهم الموت إلى مكان بعيد، وتركونا مذهولين ومشتاقين إليهم، لم يتركوا لنا فسحة من وداع، رحلوا وظل مكانهم شاغراً لا يسدّه أحد.

على كل مائدة في هذا العام هناك شخص ترك فراغاً في القلب ورحل، خطفه هادم اللذات، وابتعد إلى سماء أخرى، وعالمٍ لا نعلم عنه شيئا سوى ما نتخيّله، كانوا معنا كل سنة، ولكنهم ما عادوا كذلك اليوم، رحلوا ومعهم الكثير من الحنين الذي لا ينضب، والكثير من الدمع العالق بين الجفن والجفن، والكثير من مرارة الفقد، ووجع الذكرى، رحلوا وفي أيديهم مزهريات الحنان، وورود الضحكات، وشموع الأمل، يحملونها بين جوانحهم فيضيء العالم نورا حين نراهم، أظلم المكان من بعدهم، وصار الضوء يتوزع بين حنايا القلب الفارغ إلا من وجوههم الوضيئة.

نفتقدهم في رمضان هذا، نحاول أن نُرمم جراحنا، ونُلملم أحزاننا، وننظر إلى زوايا المائدة فلا نرى إلا ظلالا من أجسادهم، نوزع عليهم لقيمات من الطعام، ونبتهل إلى الله في كل لحظة أن يمد أعمارهم، فإذا الأعمار لا تمتد، والحياة لا تعود، والساعة لا تتوقف، كانوا يُمسكون المصاحف ويتلون ما تيسر لهم من القرآن، كانت حبات المسابح تكر بين أيديهم يسبّحون ويبتهلون دون أن يتململوا، أو يملّوا، كنا نشاهدهم في زوايا المنزل يطوفون بالجميع، ويوزعون الابتسامات، وأحيانا الأوامر التي يغدقونها علينا، كانوا يأمرون فنطيع، ويقولون فنسمع، ونشاهد وجوههم البريئة وهم يأكلون بوقار، يكفيهم من الزاد القليل، ومن الماء جرعات، ينتظرون الصلاة إلى الصلاة، ويُراقبون الساعة ليزدادوا قرباً إلى الله، كانوا أكثر بهاء وهيبة، وإشراقًا.

ذهب الأحبة وتركوا مكانهم فارغاً دون روح، سافروا إلى مكان لا نعلمه، لعلهم يراقبوننا الآن ونحن نتذكرهم، ونسترق البكاء، ويلوّحون إلينا بأيديهم، ويهمسون: (نحن معكم ولكنكم لا ترونا..)، تترقرق دموعهم شوقاً إلينا، كما نحن نفعل، يبعثون لنا قبلاتهم وسلاماتهم مثلما نصنع، يجلسون في نفس الغرفة دون أن نراهم، ويشربون اللبن والماء، ويأكلون التمر الذي يحبونه معنا، لعلهم ينامون الآن بجوارنا دون أن نشعر، ويجلسون معنا دون أن نحس، ويمشون في ردهات البيت دون أن نشاهدهم، لعلهم يقرأون القرآن مثلنا ويهدونه إلى أرواحنا، أو يصلّون التراويح بالقرب منِّا دون أن يخبرونا، أو يصومون ويفطرون على نفس المائدة التي اعتادوا عليها، ولكنهم أرواح ذائبة في الغيب لا نراها إلا بقلوبنا.

يأتي شهر رمضان هذه السنة ليترك جزءا من المشهد ناقصًا، لا يمكن ملؤه لكل من فقد أمّاً، أو أبًا، أو حبيباً، أو قريبًا، سيكون الشهر طويلا جدا بدونهم، سنغص بالدمع كلما حان موعد أذان المغرب، ونلتفت يمينا ويسارا فلا نرى أحبتنا معنا الذين شاركونا مرارة الحياة، وحلوها، وأعطونا بسخاء دون أن يطلبوا منّا مقابل هباتهم، سنفتقدهم كثيرا، ولكن..سيظلون في قلوبنا أثرا لا يمكن محوَه، ولا نزعه..نرسل لهم الدعوات الصادقة من هذه الفانية، ونسأل الله لهم الرحمة والمغفرة والفردوس الأعلى..وأن يلهم كل من فقد عزيزا الصبر والسلوان..وكل رمضان وأنتم أكثر ضياء وأقل عتمة، دون موت أو فقد.