منظمات المجتمع المدني

عبيدلي العبيدلي

في هذه الأيام، وعندما يجري الحديث عن تونس، ونجاحها في تجاوزها النسبي للتداعيات السلبية التي أفرزها الحراك السياسي الجماهيري العربي، الذي انطلقَ في العام 2010، يتصدر دور منظمات المجتمع التونسي في المكان الذي آلت إليه ما عرف حينها بـ "ثورة الياسمين". ومن المعروف أن شرارة ذلك الحراك العربي انطلقت من تونس، عندما أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه يوم الجمعة 17 ديسمبر من العام 2010؛ "احتجاجًا على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي التي صفعته أمام الملأ".

اللافت في الحالة التونسية، أن نضالات الشعب التونسي لم تتوقف، كما توهم البعض، بل نراها تندلع بين حين وآخر، للاحتجاج على قانون معين، أو للمطالبة بتحسين شروط حالة المواطن؛ سواء المعيشية أو السياسية، كما حدث على سبيل المثال لا الحصر في يناير 2018، عندما " أقرَّ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الذي عقد (حينها) اجتماعًا مع الأحزاب الحاكمة، وأهم منظمات المجتمع المدني لبحث سبل الخروج من الأزمة، بأنَّ المناخ الاجتماعي والسياسي ليس جيدًا في تونس، مُؤكدا في الوقت نفسه أنَّ الوضع يبقى إيجابيا، مشددا على قدرة الحكومة في السيطرة على المشاكل. واستجابة لضغط الشارع، أعلنت الحكومة مجموعة تدابير اجتماعية، شرح مضمونها وزير الشؤون الاجتماعية التونسي محمد الطرابلسي في لقاء صحفي بأنَّ أكثر من 120 ألف شخص سيستفيدون من خطة حكومية قُدرت تكاليفها بنحو 70 مليون دينار تونسي (23.5 مليون يورو)".

الملاحظ هنا، أنه بخلاف الحالة الشعبية في دول عربية أخرى، لم يقتصر لقاء الرئيس التونسي على الاجتماع بالقوى السياسية، بل كان هناك حضورا واضحا لمنظمات المجتمع المدني، التي تركت آثار ثقلها المجتمعي واضحة على طبيعة ومحتوى القرار الذي توصلت له الدولة حينها، وجاء على لسان رئيسها، كما هو واضح أعلاه.

ولعل من يقرأ رواية "دخان القصر" للروائية آمال مختار، الصادرة عن دار سحر للنشر، والتي تقول عن نفسها -أي الرواية- إنها "تعدُّ توثيقياً للأحداث التي وقعت في تونس منذ 17 ديسمبر 2010 حتى 14 يناير 2011، وكيف كانت الشرارة الأولى فى المظاهرات التونسية، واهتمت بالفترة المفصل التي جمعت بين الحياة في تونس في عهد بن لي وما بعد هروب هذا الأخير، ومن الروايات النادرة التي تنبأت أنّه لا مجال لحزب سياسي يتاجر بالدين أن يحكم تونس التي تميّزت عبر حضاراتها المتراكمة بأنها بلد الاعتدال والتسامح... واتجهت الكاتبة لما بين السرد الروائي الخيالي والتوثيقي الواقعي، وتعتبر من الروايات الشاملة حيث إنها اهتمت بحياة مجموعة من الشخصيات على كل المستويات النفسية والاجتماعية والسياسية"، يكتشف ذلك القارئ لتلك الرواية من زاوية سياسية، بين ثنايا النص، ذلك الدور المميز لمنظمات المجتمع المدني التونسي، ليس في تصعيد المد الجماهيري، والوصول بالحراك الشعبي التونسي إلى ما وصل إليه، بل قدرته على مراقبة أجهزة الدولة، ونجاحه في منعها من اختطاف ما انتزعته تلك الحركة الجماهيرية، وتجييره لصالح حزب معين أو فئة محددة دون سواها.

تنقل تلك الرواية القارئ، من الساحة التونسية، إلى الفضاء العربي، راسمة أمامه علامة استفهام كبيرة لماذا عجزت، ومن ثم تراجعت حركات جماهيرية عربية في بلدان أخرى غير تونس، في حين تمكنت هذه الأخيرة من الاحتفاظ بتوازنها المطلوب الذي نجحت من خلاله على التمسك بمكاسبها، والدفاع عنها، والحيلولة دون تشويهها؟

يأتي الجواب واضحا وصريحا، وربما مؤلما في بعض تفاصيله، ففي حين تمتعت منظمات المجتمع المدني بهامش مناسب من الحرية والاستقلالية التي ميزتها عن القوى السياسية الأخرى المنظمة، وقعت نظيراتها العربية في مصيدة الأنانية الضيقة التي لم تستطع القوى السياسية في بلدانها التخلص منها. وبالتالي، ذهبت حركات الجماهير في تلك البلدان العربية، بخلاف تونس، ضحية تلك الأنانية وضيق الأفق المرافق لها.

من هنا، ينيغي لأية حركة سياسية تريد أن تحافظ على مكاسبها، أن تدرك ذلك الدور الفارق الذي يميز منظمات المجتمع المدني عن سواها من التنظيمات السياسية. فهي -أي منظمات المجتمع المدني- وكما تجمع على تعريفها العديد من المنظمات الدولية والإقليمية ذات العلاقة "عبارة عن جمعيّات يقوم بإنشائها عددٌ من الأشخاص، وتقوم هذه الجمعيّات على نصرة قضيّة مشتركة، وتشتمل هذه المنظمات غير الحكوميّة، والنقابات العماليّة، والمنظمات الدينيّة والخيريّة، والنقابات المهنيّة، وجميع مؤسسات العمل الخيري، وجماعاتٌ من السكان الأصليين. على الرغم من تنوع كافة منظمات المجتمع المدني، إلا أنها تتميز بأنها تشترك في استقلالها عن القطاعين الحكومي والخاص من حيث المبدأ على الأقل، وهذه الميزة تسمح لهذه المنظمات بالعمل على الأرض وتقوم بدورٍ غاية في الأهميّة في ظل أي نظامٍ ديمقراطي".

هذا التعريف يضع منظمات المجتمع المدني، حتى عندما تمارس دورها السياسي، إن جاز لنا القول، في موقع تميز نفسها من خلاله، وبوعي كامل، ووضوح غير قابل للشك، عن الأحزاب السياسية من جهة، وعن مؤسسات الدولة من جهة ثانية.

وفي غياب ذلك التمييز، واختلاط النظرة لذلك الدور، تذوب منظمات المجتمع المدني، في واحدة من الفئتين اللتين تسعى تلك المنظمات الافتراق عنهما، دون ان يعني ذلك معاداتها لأي منهما، وينبثق عن ذلك كله، فضاء سياسي متداخل الصلاحيات، ومتشابك المسؤوليات. حينها تختلط معالم الصورة، وتذوب الفوارق، ويصعب تحديد المسؤوليات.

محصلة ذلك كله، منظمات مجتمع مدني منهكة القوى، ضبابية الرؤية، يرافقها حركة سياسية متسلطة، وإدارات دولة مشوشة، تقود في نهاية المطاف إلى حركة مجتمعية مشتتة، ينتهي بها المطاف نحو أهداف ليست واضحة تقود إليها طريق ملتوية.

وعليه، وكما تعلمنا التجربة التونسية، ينبغي على مكونات العمل السياسي في المجتمع الهادف إلى إحداث النقلة النوعية في التغير نحو الأفضل، الدفاع عن استقلالية منظمات المجتمع المدني، كي تصبح بوعي كامل صمام أمان تقدم المجتمع، وتحوله السلمي نحو التطور الذي يحلم به كل مواطن صالح.