الثورة السودانية تصارع طواحين الإجهاض

محمد علي العوض

لعلّ جملة "الأجسام أكبر مما تبدو في المرآة" تنطبق تمامًا على الحالة السودانية اليوم.. فالصورة في الخرطوم أكبر مِن ظاهر رفض الشارع المعتصم لتسلم المجلس العسكري سلطة الحكم والسيادة على إطلاقها.. وأكبر من رفض المعتصمين لعمر زين العابدين عضو المجلس العسكري الذي يرى الثوار المطالبين برحيله أنّه يحاول بشتى الطرق إقحام ما تبقى من إسلاميي الترابي المنشقين عن حزب البشير في المشهد السياسي برغم أنّهم امتداد لأيديولوجية النظام السابق، ومسؤولون عن كثير من الانتهاكات والممارسات في عشرية "البشير الأولى" وفترة ما بعد "أكذوبة" الحوار الوطني..

الصورة أكبر من تجاهل المجلس العسكري لقوى الحرية والتغيير المحركة للشارع واستبدالها بأحزاب "الفكّة" التي تحالفت مع النظام السابق ردحًا من الزمن وإلى آخر لحظة قبل سقوطه.

الصورة الحقيقية هي أنّ السودان كمحور نفاذ إلى إفريقيا وبوابة الوصول إلى شعاب البحر الأحمر بات ساحة لمعركة إقليمية ودولية، ومجالا تصطرع فيه عدد من الأيديولوجيات العابرة للقارات.

دول الخليج أحد الضالعين في تشكيل انعكاسات تلك الصورة بجانب أمريكا والاتحاد الأوربي، فبمجرد إعلان المجلس العسكري عن نفسه سارعت السعودية وحليفتاها الإمارات البحرين إلى تأييد المجلس العسكري بل والإعلان عن دعمه بمليارات الدولارات في شكل ودائع ومساعدات. أمّا مصر التي بدأت حذرة في تعاطيها مع الحراك السوداني في أوله فقد اتفقت مع الرؤية الخليجية الآن بدعم المجلس العسكري والتواصل مع أعضائه، بل ذهبت أبعد من ذلك حين نظمت مؤتمرًا إفريقيًا مصغرًا قبل يومين بحضور مفوضية السلم بالاتحاد الإفريقي، طالبت فيه بمنح المجلس العسكري فترة ثلاثة أشهر لإقامة سلطة انتقالية؛ وهذا بالطبع يتعارض مع مطالب المعتصمين أمام قيادة الجيش بالخرطوم.

مسارعة الخليج لمساندة المجلس العسكري منذ ساعة الصفر الأولى تكشف بوضوح سعي هذه الدول لتثبيت دعائم حكم العسكر في السودان أسوةً بمصر، فالسعودية كما يقول د. سعيد الشهابي "استعادت توازنها بإعادة نظام مبارك إلى الحكم" ولكن بواجهات مختلفة؛ أي ذات العطر القديم في قارورة جديدة. أمّا الإمارات الطامحة للسيطرة على موانئ البحر الأحمر في السودان، فقد أشار موقع "ساسة بوست" إلى أنّها دعمت ماليا وعسكريا الثورات المضادة للربيع العربي خصوصًا في مصر وليبيا، بل إنّها ساهمت في القضاء على الثورة السورية عبر دعم بشار الأسد..

المعتصمون الرافضون لأي وصاية خارجية والذين ردوا قافلة مساعدة إماراتية قبل عدة أيام وشيعوها بهتاف "الإمارات ترجع بس" أوضحوا عدم سماحهم للإمارات بمناهضة إرادتهم السياسية، وترجمة ذلك ما ورد على لسان محمد علي الجزولي المنسق العام لتيار الأمة الواحدة والمعروف بميوله الداعشية بأنّ الثورة السودانية تكتنفها عدة مخاطر أولها خطر الاختطاف الإقليمي، وقال بالحرف الواحد "ما حلّت الإمارات بأرض ثورة إلا أحالتها خرابا".

السيسي هو الآخر يهدف لتثبيت شرعيته الدوليّة والمحافظة على حكم العسكر في مصر من خلال مساندته المجلس العسكري الانتقالي في السودان، ويحاول جاهدا كبح جماح الحالة السودانية المطالبة بإبعاد الجيش عن مفاصل الحكم؛ لاسيما أنّ عوامل الجوار والحدود المفتوحة والتأثيرات التاريخية المتبادلة بين السودان ومصر كفيلة بنقل هذه العدوى وإعادة النظر مرة أخرى في ثورة 25 يناير.

فالشارع السوداني برأيه أنّ هذه الدول تحاول تسميم وسرقة بذرة الديمقراطية قبل أن تنبت بمحاولة إغراء المجلس العسكري الانتقالي؛ وأن الأموال الخليجية تحمل في بواطنها رسالة تحريضية للمجلس العسكري بعدم التفريط في السلطة أو وضعها في يد المدنيين، علاوة على أنّ هذه الدول تسعى لدفع المجلس العسكري للدخول في لعبة المحاور عبر نفض يديه عن محور قطر، وصنع قطيعة تامة مع هذا المحور بالتخلص من أيديولوجية الإسلام السياسي وأذيال النظام السابق؛ في وقت ينادي فيه كثير من السودانيين بعدم رهن المواقف السياسية للسودان بالمحاور الإقليمية كما كان يفعل النظام السابق.

المجلس العسكري في سبيل ترسيخ قدميه أكثر فأكثر ومستقويًا بالقوى الإقليمية مازال يمارس لعبة التجاهل وتشتيت الأصوات عملا بالمثل الشهير "خذّل عنّا فإنّ الحرب خدعة" لذا حاول الاستفراد بمكونات قوى الحرية والتغيير الممسكة بزمام الشارع، ومثال ذلك دعوته عبر آليته السياسية الحزب الشيوعي منفردا، بالإضافة إلى السماح لأبواق عدة باتهام قوى الحرية والتغيير بعزل القوى السياسية، وإشاعة نيّتها في إقامة دولة علمانية، الأمر الذي يشي بأنّه لا يعترف بقوى الحرية والتغيير ممثلا شرعيا لقوى الثورة السودانية.

أيضا من الدلائل على ممارسة المجلس العسكري نوعا من المماطلة في التسليم اجتماعه بأحزاب وشخصيات كانت يومًا من الأيام حليفة لنظام البشير؛ كغازي صلاح الدين وعلى الحاج وغيره، تحت مبرر "اللاعزل" والعمل بنصيحة الاتحاد الإفريقي حول ضرورة التوافق السياسي، وقد شرع بالفعل في تنفيذ ذلك بإعلانه تسلم نحو 100 مبادرة ورؤية للحكم من مختلف المكونات والأحزاب السودانية.

نذر المواجهة بين قوى الحريّة والتغيير التي أعلنت تعليق التفاوض مع المجلس العسكري حتى يعترف بها ممثلة للشعب بدأت منذ البيان الأول لعوض بن عوف رئيس المجلس السابق، وكذلك البيان الثاني الذي تلاه الفريق البرهان الرئيس الحالي للمجلس، فقوى الحرية ترى أن موقف المجلس مازال رماديا ويحاول بمساعدة القوى الإقليمية كسب مزيد من الزمن حتى يحصل على الاعتراف الدولي؛ لذا دعت قوى الحرية لتصعيد المواجهة معه واستمرار الاعتصام تمسكا بمطالبها القاضية بتسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية وعدم المماطلة في الرد على مطالب الثورة، وعدم المساومة بادعاء وجود قوى أخرى شرعيّة غير قوى الحرية والتغيير. بجانب ضرورة إبعاد رموز النظام السابق وحلفائه سواء كانوا في المجلس العسكري أو غيره؛ في إشارة إلى الفريق جلال الدين الذي كان يتولى منصب نائب مدير جهاز أمن النظام السابق، والفريق شرطة الطيب بابكر مدير الشرطة بالإضافة إلى الفريق عمر زين العابدين؛ إذ لا يُعقل يشارك حلفاء البشير وسدنته في الحكومة التي ثارت عليهم وخلعتهم؛ برغم مناشدة الثوار لهم سابقًا بنفض أيديهم عن البشير وألا عاصم لهم من الثورة إلا ركوب سفينة قوى الحرية؛ لكنهم آووا إلى ركن "البشير" وتمسكوا بجانبه حتى اللحظات الأخيرة من سقوطه.

الثورة السودانية "المنتوج المحلي الصرف" المولود وحيدا بلا مساندة أو دعم وبتجاهل تام في لحظات مخاضها الأولى تصارع الآن نيابة عن المنطقة العربية بأسرها مساعي الإجهاض والسرقة؛ لأنّ نجاحها يفتح الأمل أمام الشعوب العربية بمحاولة إعادة إنتاج ربيع عربي ثاني بنسخة سودانية خالية من أي انزلاق أو فتنة داخلية، كما يفضح نجاح الثورة السودانية حكومات المنطقة الضعيفة أمام الإمبريالية العالمية الطامعة في نهب مقدرات المنطقة وثروات شعوبها، وفوق هذا يفتح "دفتر الحساب" أمام سؤال: من سرق الربيع العربي وكيف؟