السودان.. بدر الثورة لم يكتمل بعد

محمد علي العوض

سقط الجنرال القوي صاحب العصا التي يلوّح بها تارة ومهددًا تارات أخرى؛ والذي حكم السودان بالحديد والنار لمدة 30 عاما.. حققت الثورة بعض مطلوباتها أسوة بنظيرتها الجزائرية؛ وإن لم تقابل الأخيرة بالعنف كما في السودان الذي فقد منذ ديسمبر الماضي وحتى اللحظة عشرات الشباب المطالبين برحيل نظام البشير..

هزمت الثورة السودانية كل المعطيات وحسابات المنطق، وتفوّقت على نفسها بوقود المثابرة والنفس الطويل فتمرّدت على مشهد ترجيح كفّة البشير المستند على حزبه المتمكن في السلطة وجهاز أمنه الباطش ومليشياته المتعددة، والمدعوم بعدد من دول المحيط الإقليمي والعالمي بطريقة أو بأخرى.

نعم.. انتصرت الثورة لكنّ الخيط الأبيض من الأسود لم يتبين بعد، ولم تنقشع كامل الغيمة عن سماء الخرطوم. فالحالة السياسية السائلة في السودان تجعل احتمال استفراد المجلس العسكري -الذي أطاح بالبشير- بالسلطة واردًا، لا سيّما أنّه تجاهل القوى السياسية بادئ أمره قبل أن يواصل بالشارع الضغط عليه ودفعه للتشاور معها. كما تفرض الحالة على الطاولة كثيرًا من القضايا أبرزها الوصول إلى تفاهمات مع حملة السلاح في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، بجانب اتفاق أطراف المعارضة على صيغة تغلب مصلحة الوطن بدلا من المماحكات السياسية والصراع على السلطة.

المجلس العسكري الانتقالي بدوره حدد فترة عامين كحد أقصى لحكمه على أن يتم بعدها إجراء انتخابات عامة تضع البلاد على مسار الخط الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، كما وعد بتسليم السلطة للشعب من خلال مجلس مدني انتقالي، وخطى في ذلك خطوات اعتبرها البعض مُقدرة؛ أولاها عزل عوض بن عوف رئيس المجلس العسكري السابق الذي أطيح به بعد يوم واحد فقط من تسنمه السلطة، وثانيها دعوة المعارضة لاختيار رئيس وزراء مدني لرئاسة الحكومة الانتقالية القادمة، زائدًا إعلانه القبض على البشير وإيداعه السجن مع بعض رموز نظامه، وقرارات أخرى من بينها هيكلة جهاز المخابرات والأمن بعد إقالة أو الدفع باستقالة مديره صلاح قوش الرجل القوي في عهد البشير، وتعيين نائب عام جديد، بالإضافة لوعود العسكر برفع القوانين المقيدة للحريات ومصادرة دور الحزب الحاكم السابق وممتلكاته بما فيها شركاته واعتقال رموزه، ومنعه من المشاركة في الحكومة القادمة.

الزمام والمبادرة ما زالا حتى اللحظة في يد الشارع الممسك بورقة الاعتصام الرابحة كأداة ضاغطة لتحقيق المطالب المتمثلة في حل المجلس العسكري الانتقالي وتشكيل مجلس سيادي مدني بتمثيل عسكري بمهام محدودة على أن يقوم بإجراءات فورية منها حل الحزب الحاكم السابق، ومصادرة أصوله وشركاته لصالح الدولة، بالإضافة لحل المليشيات التابعة للنظام البائد، وإقالة رئيس القضاء ونوابه، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات والتي من بينها قانون جهاز الأمن وقانون النقابات والاتحادات المهنية وقانون الصحافة والمطبوعات وقانون النظام العام الذي سام النساء خسفا، والقضاء على الدولة الخفيّة بالقبض على البشير ومحاكمته بجانب محاكمة رموز النظام البائد لسفكهم دماء السودانيين وسرقة موارد الشعب ومقدراته وتسببهم في فصل جنوب السودان وإشعال الحرب في أطراف السودان، وإنهاء الحرب وبناء السلام ومعالجة قضايا التهميش بصورة جذرية، ومعالجة مظالم الماضي وانتهاكاته عبر آليات العدالة الانتقالية.

تقاطعات دولية عدة تتجاذب الحالة السودانية فأوروبيا؛ دعت دول الترويكا (أمريكا، بريطانيا، النرويج) المجلس العسكري الانتقالي للاستماع لمطالب الشعب، فالتغيير المشروع الذي يطالب به السودانيون لم يتحقق حتى الآن. وحثت المجلس على عدم مواجهة الاحتجاجات السلمية المستمرة بالعنف، داعية جميع الأطراف للدخول في حوار شامل لإحداث الانتقال الذي يجب أن يتم بمصداقية وسرعة مع قادة المظاهرات، والمعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني وجميع عناصر المجتمع ذات الصلة بمن فيهم النساء الراغبات في المشاركة. ولم تنس الدول أن تدين ممارسات النظام السابق علي يد قوات الدفاع الشعبي، والأمن الشعبي والمليشيات الأخرى. كما طالبت أمريكا على لسان المتحدث باسم خارجيتها المجلس العسكري الانتقالي بضرورة الاستماع إلى نداءات الشعب. أمّا مجلس الأمن والسلم الإفريقي المجلس فقد اتخذ موقفا أكثر شدة حين أمهل المجلس العسكري فترة أقصاها أسبوعان فقط، يتم بعدها تسليم السلطة للمدنيين. بينما دعم الاتحاد الأوربي القرار الأفريقي على لسان منسقة الشؤون الخارجية فيديريكا موغيريني التي أعربت عن ضرورة تولي المدنيين قيادة المرحلة الانتقالية، وأنّ الاتحاد الأوروبي لن يعترف بشرعية المجلس العسكري الانتقالي في السودان؛ مطالبة الأخير بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومعاقبة المسؤولين من قوات الأمن عن الهجمات التي استهدفت المتظاهرين السلميين، وأدت لمقتل العديد منهم، خلال الفترة الماضية. مشيرة إلى أنّ اتخاذ هذه الخطوات من شأنها أن تُمكّن من إطلاق محادثات سياسية، ذات مغزى، بين جميع الأطراف.

شعبيا، تنتاب الشارع حالة توجس وحذر واضحة من التدخلات المصرية والخليجية في الحالة السودانية لاسيما بعد إعلان كل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين مساندتها للمجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، فالسودانيون لم يعودوا يثقون في نوايا هذه الدول، ويرون أنّها ساهمت في مد البشير بأنبوب التنفس، وإطالة فترة حكمه لقاء تجيير المواقف السياسية السودانية لصالحها في حرب اليمن والقضايا الإقليمية الأخرى، بجانب أنّها لزمت الصمت إزاء انتهاكات البشير وقمعه الاحتجاجات المندلعة منذ 19 ديسمبر الماضي؛ لذا لن يُسمح لها بأن تعيد ذات السيناريو بفرض أجندتها بعد أن آتت الثورة أكلها، كما لن يُسمح لها بأن تتحكم في مصير الشعب السوداني وخطف دولته عبر إنتاج "سيسي" أو "حفتر" جديد آخر، أو الالتفاف على الثورة السودانية على غرار ما حدث في دول الربيع العربي حين دعمت هذه الدول الثورة المضادة للقضاء على إرادة الشعوب. ويجزم كثير من السودانيين أنّ "المسارعة" الخليجية والمصرية لتقديم المساندة السياسية والاقتصادية للمجلس العسكري الانتقالي ما هي إلا طُعم للسيطرة على مجريات الأوضاع في السودان بما يخدم أجندتها سواء القضاء على الإسلاميين في المنطقة أو إضعاف حلف قطر، أو الدفع بمزيد من الجنود السودانيين في حرب اليمن، لاسيّما أنّ هناك صلات سابقة بين الفريق البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان وبين أبوظبي؛ عندما كان مشرفاً على القوات السودانية ضمن التحالف العربي في اليمن.

الجموع المؤتمرة بأمر قوى الحرية والتغيير وعلى رأسها تجمع المهنيين ما فتئت حتى هذه اللحظة تتدافع على ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش، حيث يراهن المعتصمون الذين دعوا لمليونية اليوم الخميس على كسب معركة "الصبر" فبدأوا في التحضير لإطالة أمد الاعتصام والتجهيز لصيام شهر رمضان أمام مقر قيادة الجيش، تحسبًا لمماطلة المجلس العسكري في تسليم السلطة أو تلكؤه في الرضوخ لمطالب المعتصمين؛ فبالرغم من تزايد مكاسب الثورة يومًا بعد يوم إلا أنّهم يرون أنّ الشارع لم يؤمّن انتصاره بعد، وأنّ بدر الثورة لم يكتمل حتى الآن.