بناء الفكر وتغيير النهج

 

حميد بن مسلم السعيدي

الإنسان بطبعه يتعود على منهجية واحدة في حياته، وعندما يرغب في التغيير وفقا لمتطلبات الحياة التي يعيشها يجد تحديات كثيرة، فالبعض لا يمتلك المقومات التي تساعده على ذلك فيستكين ويستسلم للواقع ويتعايش مع الحياة دون أن يكون له ذلك التأثير من أجل استمرارية البقاء، في حين أنّ هناك من يسعى إلى أن يكون جزءا مؤثرا يستفيد من التغيرات الحديثة ويتعايش معها ويصبح إنسانا منتجا.

لذا فإنّ الكثير من المفكرين أشار إلى وجود ثلاثة منطلقات أساسية توجه الإنسان نحو التغيير وهي: الإرادة، والشجاعة، والتفكير، فالإنسان الذي يمتلك هذه المنطلقات وقادر على الاستفادة منها يكون لديه المقدرة على أحداث تغيرات كبيرة في حياته، ويؤثر على المجتمع الذي يعيش فيه، حيث إنّ الانطلاق نحو خطوة جديدة تتطلب أن يكون قادر على المبادرة نحو التغيير.

ويعد التعليم أحد الأنظمة التي تُسهم في تغير حياة الإنسان مما ينعكس إيجابيا على التغيير في الوطن الذي ينتمي إليه، فالدول التي تغيرت مسار إنتاجها وتحولت من دول فقيرة أو نامية إلى دول متقدمة، حدث ذلك لأنّ المواطن كان الأداة التي ساعدت على التطوير ونقل وطنه من مرحلة إلى أخرى، حيث يُعد رأس المال الحقيقي القادر على أحداث نقلة نوعية في الدولة، وينقلها إلى مرحلة متقدمة، وهناك أمثلة كانت ناجحة في ذلك مثل فنلندا، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، فالأمر الذي أحدث ذلك عندما قرر المواطن أن يبادر ويمتلك الشجاعة ويفكر في استغلالها فكان الإنتاج هو الدليل الفاعل على وجود التغيير، فكيف لنا أن نكون كذلك؟

إننا بحاجة إلى تغيير منهجية التعليم وإحداث نقلة نوعية في كافة عناصر المنظومة التعليمية بشكل متوازن بدء من المنهج والمعلم والتقويم والطلبة والبيئة المدرسية، والتغيير الذي ينبغي أن يحدث لابد أن يركز على التفكير وصناعة العقول القادرة على الابتكار والإبداع، وما قامت به المؤسسة التربوية من إدخال مناهج سلاسل العلوم والرياضيات تُعدّ خطوة أولية في تغيير التعلم، ولا يمكن اليوم إصدار الحكم بحق هذه المناهج ولكن خلال السنوات العشر القادمة يمكن حينها تقييم هذه المناهج والتعرف على أداء المخرجات، إلا أنّ الملاحظ أنّ هناك تغيّرا من منهجية التعلم في هذه المواد حيث نقلت التعليم من الحفظ والتخزين إلى التفكير وبناء القدرات العقلية لدى الطلبة، وتوجيهم نحو الاستقصاء والاكتشاف والبحث عن المعرفة وبنائها، خاصة إذا ما تمكن المعلمون من تغير النمط التعليمي ومنح الطلبة الثقة في قدرتهم على بناء المعرفة، بالرغم أنّ هناك تحديات قد تواجههم ولكن لا يمكن التوقف دون توظيف هذا النوع من التعلم والتركيز على مهارات التفكير العليا، فالأمر ليس مستحيلاً ولكنّه بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد من أجل أن نغير النمط السابق إلى نمط يتطلب منا الوقت الجهد والصبر على تعلم الطلبة، خاصة مع وجود فروقات في القدرات العقلية بين الطلبة، وفروقات تعود إلى عوامل اجتماعية واقتصادية وفكرية.

هذا التغيير في منهجية التعليم ينبغي أن يرافقه تغيير في كافة المناهج الدراسية فلا يمكن أن نركز على مواد العلوم والرياضيات ويصبح التعلم مبني على التفكير وفي ذات الاتجاه هناك بقية المواد تركز على حفظ المعرفة كالتربية الإسلامية واللغة العربية والدراسات الاجتماعية، هذا الأمر لا يحقق التكاملية ويحدث فجوة لدى الطلبة بين نمطين من التعلم يختلفان في التعامل مع الطلبة، فيصبح لدى الطلبة اتجاهات إمّا أن يكيف نفسه مع ذلك ويصبح قادر على التعامل مع النمطين أو أنّه يركز على المواد العلمية ويهمل المواد الإنسانية مما يحدث إخفاقا متوقعا في المستوى التحصيلي لديهم، لذا طالما هناك تغير في المنهج الدراسي فينبغي أن يشمل كافة المواد الدراسية، إذ أنّ البطء في عملية التغيير يُسهم في تكرار التجارب السابقة في العملية التربوية التي لم تحقق الأهداف المرجوة منها، وحتى لا تتكرر نفس الأخطاء السابقة فإنّ الإسراع في تطوير بقية المناهج الدراسية أمر لابد منه خاصة أنّها تجاوزت العشرين عامًا دون التغيير.

فالعالم مُقبل على مرحلة حضارية جديدة تختلف عمّا نعيشه اليوم، وإذا لم نكن بتلك السرعة من أجل التكيف مع متطلباتها فإننا لن نتغير وسوف نظل معتمدين على سلعة لم تعد ذات جدوى، فما نمر به من أزمة اقتصادية تكشف حقًا عدم تحقيق التعليم تلك الغايات الوطنية، فالوطن بحاجة إلى أن يكون له دور فاعل في التنمية الاقتصادية وتحقيق التنافسية على مستوى العالم، وهذا يحتاج إلى جهود وطنية وثورة تعليمية تغير المسار وتعدل العملية التربوية، وتصنع مخرجات ذات فكر متجدد وعقل مبتكر، فالحلم ليس مستحيلاً ولكن علينا أن نفكر جيدًا ونستغل الكفاءات الوطنية بعيداً عن الذاتية والعمل على الاستفادة منهم وعدم محاربتهم، فالتجارب الدولية التي نرى أنّها ناجحة لم تعتمد إلا على المواطنين المخلصين.

الوقت لم يعد يتحمل أكثر مما ينبغي، والوطن بحاجة إلى البحث عن مواجهة حقيقية مع المستقبل، هذا المواجهة ينبغي أن تشتمل على العديد من التحديات التي تصنع مسار فاعلاً، فنحن بحاجة إلى محاربة الفساد وتطهير المؤسسات من هؤلاء الخونة والعاجزين عن خدمة الوطن، وفتح كافة الملفات التي حفظت، خاصة مع وجود قضايا متعددة تؤثر على عطاء المواطن وتشعره بالخذلان وفقدان الثقة في المسؤولين وعدم قدرتهم على إدارة مؤسسات بكفاءة، خاصة مع ما يحدث من انهيار في القيم والمبادئ والأخلاق، فما نسمعه من قضايا لم تُعد كافية فهناك الكثير بحاجة إلى الكشف عنه ومحاسبة المخطئين؛ فالوطن أمانة في أعناق الجميع، ومسؤولين عنه أمام الله والوطن وقائده المفدى.