بين الثورة والسكين

 

 

محمد علي العوض

 

أموت لا أخاف

كيفما يشاء لي مصيري

أموت لا أخاف

قدر ما أخاف

أن يموت لحظةً ضميري

 

 

 

في عصر اليوم المفتوح على الأيديولوجيات والتدفق المعلوماتي العابر للجغرافيا؛ لا يُمكن للإنسان أن يحشر نفسه في زاوية المُتفرج؛ فالمتغيرات الاجتماعيةَ السياسية تحتّم على كل واحد منِّا تفحّص موقفه النقدي من العالم، والاضطلاع بمسؤوليته تجاه الآخَرِين..

مفهوم الالتزام في الأدب ينطلق من هذه المسؤولية، والمتمظهرة في مشاركة الأديب الناس همومهم الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولكن قبل ذلك عليه أن يُفرق بين الالتزام للإنسانية وحقوقها بمعناها الواسع، وبين الالتزام بفكرة ضيقة يمثلها حزب سياسي أو جماعة ما أو أيديولوجيا محددة؛ فالأديب كما يقول سارتر "مسؤول عن كلّ شيء، عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرّد والقمع.. إنّه متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطّهدين".

وقد لعب الشعر المُلتزم دورًا بارزا في التعبير عن نضالات الشعوب العربية والإفريقية، وتوقها للفكاك من دياجير الظلم الحالكة للاصطلاء بشمس الحرية الساطعة. السودان لم يكن بدعاً من هذا حين جرّد شعراؤه سلاح الكلمة في وجه المستعمر والطغاة من أبناء جلدتهم؛ فالشعر كان على الدوام أحد أدوات الثورة لاسيما ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وما زال يلهب حماس الجماهير الثائرة حتى اليوم..

من أجل ذلك كتب محمد المهدي المجذوب في زبور الحرية أجمل صوادحه المنادية بالحرية:

خمسون عاماً وللأغماد حمحمة وللسیوف إباء لیس ینتصر

أبقى فتنكرني الخرطوم كافرة غردون فیها علي المهدي منتصر

حتّام نسكت لا رأي ولا عمل على الخطوب لا سمع ولا بصر

ویشاركه في حشد المواكب الثورية محمد سعيد العباسي بأبيات باعثة على التغيير والانتفاضة:

الآن یا وطني تهب منفضاً بالفكر عنك سلاسل وجموداً

وهو الجهاد ولیس غیر صباحه عید یعود على البغاة وعیدا

وطني حشدت لك القصید مواكب تشدو وترفع شاطئیك بنودا

ولأنّ الأدب لا يعترف بالحدود لم يرهن شعراء السودان أشواقهم للحرية بجغرافيا محددة، فقضية الحرية واحدة وإن تعددت الميادين كما يقول الأديب فضيلي جماع: "سنظل حتى الأبد معسكرين اثنين؛ معسكر مع الإنسان في قضاياه الأساسية، الحرية والعدالة والمساواة، ومعسكر آخر لا يرى المرء فيه غير مصلحة نفسه بمعزل عن حركة التاريخ التي هي حركة الجماهير" لذلك انتظم الشعر السوداني في سلك مقاومة المحتل الصهيوني مبكراً فها هو الناصر قريب الله في عام ١٩٤٧ينظم قصيدة يقول فيها:

وإلى فلسطین القضاء بحاصب من ناره في كل یوم یقذف

أرض الطهارة منذ خط كتابها وبها ملائكة السماء تطوف

قد أقبلت تجزي العداء بمثله وترد كید الكائدین وتصرف

ومن هذا أيضًا ما حفل به ديوان "غضبة الهبباي" لصلاح أحمد إبراهيم الذي شغلت قضايا التحرر الإفريقي -لاسيّما في الكنغو- معظم ديوانه، فتراه يصب الدمع ثخينًا على اغتيال "لوممبا":

هل رأيتم آخر الليل وقد ران على الناس الوسن

جثة طاهرة تدفن من غير كفن

تركت في خضرة الأرض شريطا معنويا

هامسا في أذن الغابة والصبح تهيأ

مات لكنه صار أقوى منه حيا

وتقف (أغاني إفريقيا وذكرياتها وعشقيّاتها) عند الفيتوري شاهدة على عالمية الشعر السوداني:

یا شعبنا خطاك إعصار

وصوتك صوت رعد

وبیارق الشهداء فوق ثراك من جد لجد

والشمس حانیة علیك تطل في تیه ووجد

ترنو إلیك وأنت ثورة ثائرین لخیر قصد

لحیاة شعب وانتفاضة أمة وبناء مجد

ولتصبح الحریة الكبرى

طريقك دون حد

وفي الحصاد الإفريقي التي يبتدرها بـ "أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقٍ" يكتب:

أصبح الصبح قبابًا عالياتٍ وبيارق

تفرش الأرض ودقات نحاسٍ وطبول

إيه يا إفريقيا الكبرى التي تبني المشارق

أنا ما زلت أرى وجهك في ضوء الحدائق

وفي (رسالة إلى الخرطوم) يكتب الفيتوري:

شعبي الجريح المصارع

رأيته وهو صدر عار يسد الشوارع

وقلت ما كان شعبي للبطش يوماً براكع

ولم يكن مجد شعبي لمشترٍ أو بائع

فالشعب كالأفق في صدره تنام الزوابع

والشعب كالنيل في عمقه انفعال المنابع

وبذات القدر راهن مُحمد المكي إبراهيم على الشعب وقدرته على إكساب الحياة معاني مختلفة:

من غیرنا یُعطي لهذا الشعب معنى أن یعیش وینتصر

من غیرنا لیقرر التاریخ والقیم الجدیدة والسیر

من غیرنا لصیاغة الدنیا وتركیب الحیاة القادمة

ويذهب في وصف الشعب وجیله بأنه معطاء مصادم.. مستمیت على المبادئ التي يؤمن بها:

 

جیلي أنا

هدم المحالات العتیقة وانتضى سیف الوثوق مطاعنا

ومشى لباحات الخلود عیونه مفتوحة

وصدوره مكشوفة بجراحها متزینة

متخیرًا وعر الدروب وسائرا فوق الرصاص منافحاً

 

وتزين أشعاره بجانب حميد والقدال ومحجوب شريف لافتات الحراك الدائر الآن في السودان أو ما يُعرف بثورة 19 ديسمبر؛ فبرغم أنّها كُتبت قبل عشرات السنين إلا أنّ الواقع يقول إنّ إرهاصات الكتابة الأولى ودواعي الإلهام ما زالت حاضرة حيّة طازجة؛ كأنما التاريخ أنضجها وكتبها للتو؛ لتناسب الراهن وأشواق الجماهير..

محجوب شريف يُعد نموذجًا للشاعر الملتزم بقضايا شعبه وأمته الذي يجفو الظلم ويُغازل أحلام البسطاء من العامة لذا لقبه الناس بـ "شاعر الشعب" وهو كما وصفه محمد نجيب محمد علي: يلتقط المفردة البسيطة الموحية من أفواه النَّاس وسجالاتهم اليومية ليُعطيها من روحه وموهبته ما يُحيلها إلى أنشودة يتغنى بها الجميع، وقد تحولت نصوصه العامية إلى مرآة عاكسة للواقع السياسي وموقفه الشخصي الأيديولوجي:

وحياة أمنا الخرطوم

أشيل شيلي وأشد حيلي

وأموت واقف على حيلي

وأقولك يا أعز الناس

على الوعد القديم جايين

وبين الثورة والسكين

شيوعيين..

وحتى الموت شيوعيين

كما يردد المتظاهرون في شوارع الخرطوم الآن كلماته الشهيرة التي نافح بها الرئيس نميري في السبعينيات:

مساجينك.. مساجينك

تغرد في زنازينك

عصافير مجرّحة بسكاكينك

نغني ونحن في أسرك.. ترجف وأنت في قصرك