قرارات ترامب ووفاة النظام الرسمي العربي

 

علي بن مسعود المعشني

في عام 2008، وفي تفاصيل العدوان الصهيوني على غزَّة رشحت أخبار بُعيد العدوان مفادها رفض السُلطة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس والنظام المصري وعلى رأسه الرئيس الأسبق حسني مبارك، المُشاركة المُباشرة في العدوان على غزة رغم الضغوط الأمريكية الكبيرة عليهما وتسويق الأمريكان والصهاينة حينها لذريعة تقاطع مصلحة الجميع في الإجهاز على حماس والجهاد في القطاع، وكانت ذريعة السُلطة في رام الله والنظام بالقاهرة أن المشاركة المباشرة تعني انتحارا سياسيا وسقوطا أخلاقيا مدويا لهما.

قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة بشأن اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني الغاصب ثم قراره باعتبار أرض هضبة الجولان العربية السورية أرضًا صهيونية بالنسبة لي مجرد أحلام وفقاعات وحروب جانبية لإلهاء الأمة عن المعركة والقضية الكبرى وهي قضية ومعركة تحرير فلسطين.

ترامب في حقيقته لم يُصدر قرارات بل وعود شبيهة ببلفور مع الفارق الكبير، ما بين وعد بلفور ووعود ترامب، فوعد بلفور عام 1917م من قبل إنجلترا لمنح وطن للشعب اليهودي كان في عهد الاحتلال العُثماني للوطن العربي وفي فترة انهيار الدولة العثمانية وأفولها وغياب الدولة الوطنية العربية بينما اليوم الحال مختلف تمامًا.

ينظر الناس إلى دونالد ترامب اليوم وخاصة في وطننا العربي - كونه الجلاد ونحن الضحية - كشخص بليد ومتهور ونرجسي ووقح، ولا يليق بشخص مثله حكم وقيادة دولة بحجم أمريكا وتأثيرها في العالم، بينما الواقع أنَّ ترامب كرئيس ليس شخصا بل مؤسسة وهذه المؤسسة تمثل لوبيا كبيرا في الإدارة الأمريكية، بل حكومة ظل بكل معنى الكلمة. الأمر الآخر أنَّ ترامب وليد شرعي لثقافة أمريكية خالصة مُلخصها العنجهية والنرجسية وموروثها الصلف والعربدة والبلطجة. وما يقوم به ترامب في العلن اليوم قولاً وعملاً قام به أسلافه عملًا كذلك ودون ضجيج وفي المحصلة النهائية فعنتريات ترامب ليست سوى إظهار لتلك الصفات وإبرازها على السطح لما يُمكن أن نسميه بالأخلاق الأمريكية، تلك الأخلاق التي مارسها جميع حكام أمريكا بلا استثناء تلميحًا وتصريحًا سلوكاً وممارسة بالنسبة والتناسب.

حين تبنى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وساطة السلام على المسار السوري/ الصهيوني عام 1998م، لتقرير مصير هضبة الجولان السورية تزامن مع ذلك المسار فتح قناة على الجانب اللبناني بشأن مصير مزارع شبعا وكفر شوبا وجزء من قرية الغجر حيث ظهر للسوريين واللبنانيين معًا أنَّ الكيان الصهيوني والراعي الأمريكي يضع جميع مكونات تلك المناطق تحت عنوان السلام في المنطقة بينما العنوان البارز هو هضبة الجولان وهذا ما أفصح عنه الرئيس اللبناني الأسبق إيميل لحود مؤخرًا، وهذا يعني أنَّ قرار ترامب ووعده بشأن الجولان ينسحب ضمنًا على تلك المناطق من لبنان. المراد من كل ما تقدَّم القول بالقطع بأنَّ إدارة ترامب لم تأتِ بجديد يختلف عن عهود سابقاتها في رعاية الكيان الصهيوني والبحث عن أمنه ومصالحه، ولكن ما يُميز الإدارة الأمريكية الحالية ويُؤطر حراكها في المنطقة اليوم هو المعطيات على الأرض والوضع الميداني المتحول في المنطقة والذي غير كثيرًا من قواعد الاشتباك وأسقط الكثير من الخيارات والأوراق من الإدارة الأمريكية والصهاينة.

فشل "الربيع" السوري وتشكل قوى دولية منافسة ومتحدية للنفوذ والمخططات الأمريكية وبروز أثر محور المُقاومة وتشكله كقوة إقليمية وازنة جعلت الأمريكان يلتفون على الواقع ويبحثون عن انتصارات بطعم الهزيمة ومرارة إكراهات الواقع. فكل متابع حذق للأحداث في المنطقة يعلم أنّ وعود ترامب وإدارته ليست سوى بالونات اختبار والبحث بصوت عالٍ وضجيج عن مخرج أزمة يليق بأمريكا القوة العظمى المتوارية عن المسرح الدولي بالتدريج، وبالتالي لابد لترامب وإدارته من البحث عن أدوات مساعدة لتشكيل طوق نجاة ووسائل إنقاذ للمشروع الأمريكي ويتمثل ذلك في تسويق نتنياهو أولًا وتعزيز حظوظه في الانتخابات القادمة ليتمكن من الفوز ويضطلع بدور مساعد للأمريكي الغارق، وذلك بالتزامن مع الضغط على من يسمون - وفق البورد الأمريكي - بحلفاء أمريكا في المنطقة للقيام بأدوار مساعدة ولكنها شبيهة بالانتحار السياسي الذي طُلب من عباس ومبارك في عدوان غزة، وفي المُقابل حصول ترامب على دعم مفتوح من اللوبي الصهيوني بأمريكا يعينه على مُواجهة خصومه في الداخل ويُعزز من حظوظه في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2020م، وبنجاح هذه الصفقة والمخطط بشقيه الشرق أوسطي/أمريكي يتم ضمان تزامل جميع أطرافه لأعوام قادمة تُساعدهم على تمكين صفقاتهم للمنطقة بارتياح "وكما يحلمون" . يُراهن الأمريكي اليوم أكثر من أي وقت مضى وبحكم إكراهات الواقع على ضرورة القيام بعمليات سياسية بنكهة داعشية لتحقيق غايات تمثل الفرصة الأخيرة لتحقيق أمن الكيان الصهيوني بقوة السلام أو بقوة السلاح، وهو خيار البائس المُحبط والغريق الذي أصبح يرى في القشة مشروعا عظيما، لهذا لم يخفِ بومبيو هذا الموقف حين قال: إنَّ حكومة ترامب في حلٍ من التزامات الحكومات الأمريكية السابقة. فأمريكا اليوم دولة تُسابق الزمن قبل الانهيار المدوي الكبير، بفعل تعثراتها الاقتصادية المُرعبة ومديونياتها الضخمة والتي دفعتها إلى احتلالات مكشوفة كحالة فنزويلا ونهب مقنن لثروات الآخرين كحالة إيران وابتزاز مكشوف كحال أقطار الخليج وتخبط سياسي كحالهم مع الشريك الأوروبي. قد تبدو وعود ترامب وإدارته بالنسبة للبعض مقدمات ضرورية لتمرير صفقة القرن وكما صرّح ولمّح بومبيو ووصف قرارات رئيسه بالضرورة للسلام في المنطقة، وبالتالي تتعمد الإدارة الأمريكية رفع سقف التهويل وسياسة حافة الحرب في المنطقة إلى درجة الخطر كي تستدر الموقف المطلوب لاحقًا وهو تحقيق أمن الكيان، فالواقع ومعطياته يسيران عكس الرغبات الأمريكية والأحلام الصهيونية. وهذا الواقع يتمثل في العجز الواضح لأمريكا وأدواتها في المنطقة عن القيام بفرض أي واقع أو إكراهات دون مشاركة أو قبول تيار الممانعة المسيطر على الأرض، الأمر الثاني العجز التام لأمريكا وأدواتها عن القيام بأيّ عمل عسكري ضد إيران وكما يلوحون لأنَّ خسائرهم ستكون كارثية نتيجة فقدهم للكثير من أوراق التأثير والحسم على الأرض بل وحتى العراق الجريح رفض أن يكون طرفًا في تنفيذ الحصار على إيران ولبنان الصغير قال للأمريكان وفي وجه بومبيو إن حزب الله مكون سياسي لبناني أصيل ولا يُمكن تصنيفه كمنظمة إرهابية وفق البورد الأمريكي وهذا إقرار رسمي وضمني لبناني بتزكية لبنان لتيار الممانعة إن لم يكن إعلان انضمام له.

رهان ترامب وإدارته والكيان الصهيوني معهم على حشد النظام الرسمي العربي الموالي لهم لتنفيذ مراحل التطبيع ومباركة خطوات أمريكا بالصمت أو العلن تمهيدًا لتحريض تلك النُظم واضطرارها في مرحلة لاحقة إلى مواجهة شعوبها وقمعها وانتهاج سياسات تتناغم مع ثقافة التطبيع لتمرير صفقة القرن، وهنا لابد أن تخوض النُظم العربية تلك حروبًا بالوكالة عن أمريكا والصهاينة بالإكراه، مسرحها الوطن العربي وضحاياها الحكومات والشعب العربي، وهذا الوضع القسري كفيل بتعاظم الشعور الشعبي واندفاعه نحو المُقاومة، وستضطر المقاومة "مكرهة" إلى تعطيل شهر عسلها مع النظام الرسمي العربي وتصنيفه في خانة العدو المباشر، وهنا سيتدخل الأمريكان "لصالح الشعوب" والتضحية بأكبر عدد من الحكام والحكومات العربية لكسب ود الشارع وإعادة التموضع في الوعي الجماهيري العربي وانتزاع طيف منه من حضن وثقافة المقاومة وإعادته إلى زمن سياسات الخواء والترفيه والنزهة خارج التاريخ مجددًا وكما رأينا في مخطط الربيع الماضي

هذا ليس سيناريو لفيلم خيال علمي بل قراءة واستنطاق لمآلات حماقات ترامب ووعوده النرجسية الحالمة ومن يُسايره، فإذا كان بلفور مرر وعده في ظل احتلال عثماني وغياب الدولة الوطنية العربية وتفرد الغرب، فإنَّ الوضع اليوم مختلف كليًا في المُعطيات والنتائج على الأرض وفي التحولات الدولية وقواعد الصراع كذلك.

كم أشفق على النظام الرسمي العربي والذي يُساق إلى حتفه بيده وقواه، ولم يتعظ ليتسلح في الحد الأدنى من مواقف عباس ومبارك في عدوان غزة 2008م ليجربوا قول (لا) لمرة واحدة في وجه أمريكا والظفر بالعفو عند "المقبرة" من قبل شعوبهم.

الكارثة لوعود ترامب وأحلام أتباعه أنَّ كل هذه الجهود والمناورات لتمكين نتنياهو من ولاية ثالثة تمكنه من إكمال باقي المُخطط مع باقي الأتباع في المنطقة واستدعاء ما يشبه مبدأ نيكسون 1969م، بأدوات جديدة وفي زمن جديد كله مرهون برشقات صاروخية من أي طرف مقاوم في معمعة الانتخابات لتطيح بنتن والوعد والمخطط معًا وتزج به في السجن كسلفه أولمرت والأيام بيننا.

قبل اللقاء: النظام الرسمي العربي يُدرك ولكنه لا يعي على الإطلاق ما يُحاك له من قبل الغرب والإدارة الأمريكية بالتحديد ليتم التضحية به واستهلاكه في لحظة تاريخية وتسويقه "كعدو لشعبه ولمصالح أمته" بعد انقضاء الحاجة إليه وتمريره بلا وعي لمُخططات الغرب ضد نفسه وأمته تحت عناوين الضرورة ومقتضيات الظرف التاريخي والواقعية السياسية وشعار "من خاف سلم"!!فمن لا يقرأ التاريخ محكوم عليه تكرار عثراته.

وبالشكر تدوم النعم