د. عبدالله باحجاج
يبدو أنّ معركتنا ضد الفساد لم تبدأ، وكل ما تظهر من حالات بين الفينة والأخرى، ما هي إلا نتيجة ثغرات تؤدي إلى الفساد، ولو أنّ المعركة بدأت من عام 2011 لما برزت حالة جديدة هزت المجتمع، وجعلته يفتح الاحتمالات كلها، ومن أوسع أبوابها، ويطرح في الوقت نفسه تساؤلين هامين هما: من؟ وكيف نحمي المال العام؟ وهذا المال هو مال الشعب، وهو لا ينحصر في السيولة المالية فقط، وإنّما هو مفهوم يشمل كل ما هو عام أو عمومي، وهناك عدة صور معبرة عن ذلك، أبرزها الشركات الحكومية والعقود والمناقصات والمصانع والأراضي.. إلخ.
فمن يستولي على أراض للدولة من خلال منظومة الانتفاع الخاصة، فهو مختلس، ومن تحوّل له أسهم عامة بطرق خاصة أو ملكية مشاريع عمومية. فهو مختلس، ومن تمنح له أرض سياحية لكي يستثمرها، ولم يفعل ذلك من عدة سنوات وتظل الأرض في ملكيته باسمه؛ فهو مختلس.. ومن يغش في مواصفات الطرق والجسور والمدارس والجامعات فهو ينطبق عليه مفهوم الفساد...إلخ.
لن يستقيم مشهدنا الوطني في صورتيه المتعارضتين الأولى: تشديد الخناق المالي على المجتمع وعدم إيجاد عمل للآلاف من شبانا بسبب ادعاءات الأزمة النفطية، والثانية سرقة المال العام، فكيف يطمئن الشعب على ثرواته بعد ما انكشف له أنّ التدابير التي أمر بها عاهل البلاد منذ 2011، لم تحقق ضمانة المال العام، ولم تكافح الفساد حتى الآن؟ ففي ذلك العام، صدرت توجيهات مشددة من لدن عاهل البلاد - حفظه الله ورعاه- للحكومة بمكافحة الفساد، لكن يظهر أنّ السلطة التنفيذية لم تتعاط معها كما يجب، وهنا تتجدد لنا الإشكالية القديمة الجديدة، وهي قصور بعض المسؤولين في تنفيذ التوجيهات، فهل ينبغي أن نطمئن على المال العام في استمراريتهم في مواقعهم الوظيفية؟
من هنا نرى أنّ النظرة المتأملة في الأعماق، والنافذة لأولويات مرحلتنا الوطنية الجديدة ومن مختلف تحدياتها الداخلية والخارجية، تجعل من مكافحة الفساد بكل أشكاله المختلفة، معركة بلادنا الأولى دون منازع، وتحتم ألا ننظر لحالة الاعتداء الجديدة على حرمة المال العام بمعزل عن التسليم بحتمية إعادة ترتيب البيت الحكومي من جهة وتفعيل مفهوم الشراكة مع المجتمع من جهة ثانية، ودراسة مدى أهلية الفاعلين الحكوميين والعموميين (وزراء وكلاء ورؤساء تنفيذيين للشركات الحكومية) لمرحلة وطنية لا يقبل فيها الفشل من صنع البشر، وعنوانها "إعلاء الوطنية" حتى لا يفقد الوطن مواطنيه عبر تفريغ الوطنية من مضامينها.
لذلك فالاتجاه الوطني ينبغي أن ينصب الآن، على كيف ينبغي أن يكون البيت الحكومي أكثر تنظيما، وأكثر وضوحا، وأكثر تركيزا، وأكثر انسجاما مع توجهات الدولة الاقتصادية الجديدة، ومع ضبط النفقات الحكومية، والحافظ على المال العام.. والتركيز على المهام الأساسية التي يجب أن تقوم بها السلطة التنفيذية في كل القطاعات، وكلها تدعو إلى نقلة حقيقية وعميقة في البيت الحكومي لمواجهة تحديات عصر الجبايات.
وإعادة البيت الحكومي ينبغي أن يأتي لنجاح معركة البلاد الأولى وهي الحفاظ على المال بعد ما انكشفت ثغرات تصنع الفساد رغم التشديد على مكافحته من لدن عاهل البلاد - حفظه الله- منذ عام 2011 في افتتاح الدورة الخامسة لمجلس عمان في حصن الشموخ بولاية منح بمحافظة الداخلية، ونستدعي فقرة أساسية من هذا الخطاب لكي تكشف لنا بجلاء قوة الإرادة السياسية في محاربة الفساد، ففيها يقول جلالته: "إننا نؤكد في هذا المقام على عدم السماح بأي شكل من أشكال الفساد.. ونكلف حكومتنا باتخاذ التدابير كافة التي تحول دون حدوثه، وعلى الجهات القضائية أن تقوم بواجبها في هذا الشأن بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون".
هذه الإرادة كان لها ما يبررها، فقد جاءت في صيغتها المشددة بعد اكتشاف حالات فساد من كبار المسؤولين في البلاد أثارت الرأي العام، وقد صدر القضاء فيها أحكامه، وببروز حالة جديدة، تظهر أنّ معركتنا ضد الفساد لم تبدأ، وتظهر الإرادة السياسية وكأنها لم تغادر تاريخ منشئها ودوافعها رغم أنّ صلاحيتها قديمة ودائمة، فتحليل مفردات تلكم الفقرة، يحمل دلالات الديمومة وبنفس قوتها، مثل "إننا نؤكد" وكذلك عدم قبول الفساد "بأي شكل من أشكاله" وأيضا "تكليف الحكومة باتخاذ التدابير كافة التي تحول دون حدوثه". وحدوثه مجددا تبدو الإشكالية هنا في عدم فعالية التدابير التي اتخذتها الحكومة رغم تلكم الإرادة السياسية القوية لمحاربة الفساد، لن نسترسل في قضية الاختلاس الجديدة كثيرا، لأنّ القضاء لم يقل كلمته الأخيرة، وإنما ننطلق منها كأرضية للمطالبة بإعادة ترتيب البيت الحكومي، لأن أحد بيوته قد اكتشفت فيه ثغرات للفساد.
لماذا التشديد على إعادة ترتيب البيت الحكومي من منظور الحفاظ على المال العام؟ لحرمته دينيا وقانونيا، وهو مقدم في الشريعة على النفس، ولأنّ كل قضايانا القديمة والمعاصرة والمستقبلية وراءها مسببات مالية مؤثرة سلبيا على تنمية البلاد وتقدمها، فلو تمعّنا في قضايا الباحثين عن عمل والترقيات وتعطيل وتأجيل المشاريع وفرض ضرائب ورسوم مشددة، كلها وراءها نقص السيولة المالية. كما تلح التحولات الاقتصادية الكبرى في بلادنا على تهيئة كل الظروف والبيئات والعمل على جاهزية كل المؤسسات وأطرها وكوادرها لنجاح "رؤية 2040"، وكذلك لتخفيف العبء المالي المترتب على موازنة الدولة من تعدد المؤسسات الحكومية، والكشف عن المتشابه منها من حيث المهام، ودمجها وإعادة تدوير الموظفين فيها، والسماح للتقاعد الاختياري لمن يرغب منهم بعد منحهم امتيازات مغرية.
وقد يعطي للمقترح الأخير الاعتداد المستحق، لأنّه لم يتأمل فيه بشيء من العمق، فهذا الدمج سيقابله تباعًا تخفيض عدد مجالس الإدارات واللجان والمراكز الحكومية والعمومية التي يتم فيها تدوير النخب الحكومية والرسمية عليها من أجل الانتفاع الشخصي في إطار منظومة انتفاع مغلقة، فالوجوه على مختلف مستوياتها (وزراء وكلاء مستشارون ومن يريدون له الانتفاع الخاص) تتكرر وتتشابه في الكثير من مجالس الإدارات، مما تحولت اللجان ومجالس الإدارات إلى مصادر انتفاع لنخب دون غيرها، وبالتالي نرى فيها استنزافا ماليا مستهدفا للنفع الخاص.
والكثير من الشركات تخسر الملايين سنويا، وتتلقى في المقابل الملايين من خزينة الدولة دعما سنويا، فهل هذه الوضعية ينبغي أن تستمر الآن؟ من هنا تأتي مطالبتنا بإعادة ترتيب البيت الحكومي في إطار رسم خارطة طريق جديدة واضحة لترتيب البيت الحكومي بجناحيه الحكومي والعمومي كالشركات الحكومية من كل النواحي (ثقافة وهيكلة ورقابة حكومية ومستقلة) مع الانفتاح الضروري على تفعيل مواد أساسية في النظام الأساسي للدولة كمادتي (48) و(49) اللتين تفتحان استيعاب الإصلاح في البيت الحكومي بصورة تلقائية، ومن مفاصل إصلاحية جوهرية، وليس فقط من منظور محدود وهو تحديث وتطوير التدابير الإجرائية والتشريعية والإدارية للقضاء على ثغرات الفساد.
فهذا المنظور المحدود، لم يعد في ظل وجود مجموعة اختلالات كافيا لوحده للحفاظ على المال العام، وينبغي أن يتزامن معه كذلك تحديث وتطوير الدور الرقابي لمجلس الشورى "المنتخب" عبر تفعيل رقابته على الأداء الحكومي، وذلك من خلال تحرير أدواته الرقابية الدستورية من القيود التي تغل فاعليتها، وهي قيود تعقد من ممارستها كثيرًا، كأداة استجواب الوزراء التي تعد أهم الأدوات الرقابية، لكنّها مقيدة بلائحة تصعب من ممارسة هذه الأداة (سنتناولها في مقال خاص). فالمرونة في استعمال الأدوات الرقابية تستوجبها بالضرورة مرحلتنا الوطنية الجديدة عامة، والحفاظ على المال العام خاصة، وإذا ثبت إدانة الوزير، ينبغي أن يترتب عليه حجب الثقة عنه وفق إجراءات تكاملية مع السلطة السياسية العليا.
فما قيمة التشريعات في ظل غياب محاسبة المقصرين؟ وما قيمة تفعيل جهاز الرقابة المالية والإدارية، وهناك من يستغل نفوذه من أجل منافع خاصة وخارج نطاق المساءلة؟ وما فعالية الجهاز الرقابي رغم أهمية استقلاليته دون المشاركة الفعّالة مع رقابة مجلس الشورى؟
من هنا نكون قد وضعنا اكتشاف حالة الفساد الجديدة ضمن سياقات ما يجب فعله في مرحلة سياسية واقتصادية معقدة جدا تعيشها البلاد، ومن ثم ينبغي تحديث وتطوير البيت الحكومي- فاعلين وهيكلة- وتفعيل مشاركة مجلس الشورى في الرقابة، تزامنا مع وضع استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد، واجتثاث كل أشكاله، وإلا فإننا نخشى على الوطن من سلب قوته المالية واختراق أبنائه من الخارج من بوابة عديدة، منها بوابة القهر بسبب الفساد وأشكاله، وبوابة الفقر، فالفساد إذا لم يحارب، ينتج بيئات مواتية لأصحاب الأجندات الراديكالية والأيديولوجية، وإذا ما وصلنا لهذه الحالة- لا قدر الله - فسيكون قد تجاوزنا كل الخطوط الحمر.