من أجل الوصول أم البقاء؟!

 

فاطمة الحارثية

لا نبحثُ في أيِّ خِطاب يُلقى علينا عادةً عن نوع المُفردات التي يستعينُ بها الخطيب أو المتحدِّث كثيرًا، وفي الغالِب يشغلنا فحوَى مَحاور خطابه، وما يبتغيه من أفكارٍ ومعانٍ. لكن ما لفت انتباهِي مُؤخَّرا في أحد المنتديات الاقتصادية قيامُ بعضِ المتحدثين بتكرار الجُمل التي يُريد من الحضور أن ينتبِه لمفرداتها، كمن يُعلِن عن الجهد الذي بَذله لتشكيلِ تلك العبارات السجعيَّة.

تمَّ عرضُ ما يقارب السبع خُطب بإسهاب يثير الدهشة في استخدام المفردات والعبارات المستهلكة والمكررة التي أُحِب تسميتها بـ"المطاطة" مثل الاستدامة، الذكاء الصناعي، الشفافية، الصالح العام... وغيرها الكثير، وكأنه من الخطأ عدم وضع ما قد بَات رنينًا مألوفًا على أذن المستمعين. وفي المقابل، لم أَجِد أيَّ خطاب تفرد بشرح عُمق الأوضاع، سألتُ أحد المتحدثات التي صَادف أن كانت على نفس طاولتي: لماذا يصرُّ الجميع على ترديد ذات العبارات؟ هل هي من الصدفة؟ وجاء ردها بسيطًا جدًّا: لقد تمَّ وضع جميع المحادثات في قالب العرض ذاته، كي لا ينزعج أحد من الحضور بعبارات قد تُؤوَّل خطأ.

ردَّها جعلني أرجع عشرين عامًا إلى الوراء، عِندما لبس الكثيرون أسمال الثقافة، وتشدَّقوا بالمفردات الغربية والغريبة بألسنتهم وأقلامهم ليُقال عنهم مفكرون ومثقفون.

هل ما زِلنا بحاجةٍ إلى المفردات المطاطة أو العبارات المنمَّقة حتى ونحن على شَفا جُرف عال، وهل الكاتب أم المتلقِّي أو مقامات الحضور من يرسمُون تلك المفردات على خارطة الطرح؟ من أجل الوصول أو البقاء، وبينهما يسقط الهدف، وتُهمَّش الرسالة، ولا يبقى للنُّبل عنوان؟

لا تَقع المسؤوليَّات على عاتقِ الأفراد، وإن وضعها المتقاعسون عليهم؛ لأنَّها تأثر وتثقل عاتقِ الجميع دون استثناء، ومع ذلك لا بُد على الفرد نفسه بناء فكره وذاته للخروج من صندوقه المغلق، والاستسقاء من التنوع الفكري، وقبل أن يتحدَّث عن فعل التغيير أو يبدأ العمل به، عليه أن يُدرك أهمية العمل الجماعي، ويعمل على الأخذ بيد من باستطاعتهم أن يُحقِّقوا بقاء هذا التغير وتطوره معه.. الفردية لا تبقِي أحدًا وإن وصل لغايته، كذلك الكلمات الرنانة والمنمَّقة لأن التشكيل والنقوس التي عليها من أجل الصورة الجميلة لا تمحو فراغات الحروف التي تكشف المعوقات بسبب القصور في العمل. إنَّ التضافُر والتكاتف على بيِّنة دون السماح للمصالح الشخصية والعلاقات لضمر الحقائق يُوصلنا إلى حُسن الأداء؛ وبالتالي بُلوغ الأهداف بسلاسة وزمنٍ قياسيٍّ، مع الإدراك البُعدي لكافة التحديات والمخاطر.

... إنَّنا قد تجاوزنا عقودًا على فكرة التعلم بالتجربة والخطأ، فمُعظمنا إن لم يكن جميعنا مَرَرنا بمراحل التعليم المختلفة والخبرات الكثيرة، وهذا يُزيل عذر (دروس/ خطأ نتعلم منه).  في الواقع أعتقد أنَّ هذا العذر يأتي من أفعال فردية فَرَضَت رأيها وسُلطتها، كما يُشاطرني الرأي الكثيرون بأنَّ العمل والقرار الجماعي قليلا ما يأتِي بنتائج سلبية لأنَّ التنوُّع الفكري والبعدي في المحاور الجماعية يأخُذ أبعادًا قصيرة وطويلة المدى، فيتم تدارُك المخاطر مسبقا.

--------------------------

رسالة:

إنَّنا لا نخدع إلا أنفسنا بدُعائنا بالتغيير؛ لأنَّه مهما قُلنا وتشدَّقنا بأننا قد تغيَّرنا، فإنَّ سلوكَنا وهفوات كلماتنا المصطنعة، وانفعالاتنا، كلها تُكمل لوحة وجودنا، وتعكسنا مرآة حقيقتنا في أعين الآخرين.

تعليق عبر الفيس بوك