رودريجو يتلو من جديد ما قاله فيريري

د.  سيف بن ناصر المعمري

حتى لا يتَّهمني الرياضيون بتضليلهم بوضع اسم رودريجو في عنوان مقال هذا الأسبوع، أقول لهم إنَّني لا أودُّ الحديث عن رودريجو لاعب كرة القدم، الذي خرج من البرازيل، هذه الدولة المعروفة للعالم بمواهبها الكروية، التي سحرت العالم طوال أكثر من قرن من الزمان، وسحرتني أنا أيضا، طفلا وشابا؛ حيث كُنتُ ولا أزال من أنصار المنتخب البرازيل، أحتفظ بصُوَر قديمة جدًّا لأشهر لاعبيه: بيليه، وسقراط، وزيكو، ورماريو... وغيرهم من سلسلة الإبداع الطويلة في هذا البلد المتنوع في مكوناته السكانية وجغرافيته الكبيرة التي تحتل ما يقارب الـ70% من مساحة أمريكا اللاتينية، والتي لا نعرف عنها إلا أسماء رُؤساء بعض دولها وأشهر لاعبي كرة القدم فيها، وبعض زُعَماء العصابات، وبعض كُتَّابها العظام الذين حفرُوا أسماءهم في قائمة أفضل قائمة أدباء العالم، وفي ظل ذلك ننسى فئة أخرى لا تقل عنهم تأثيرًا وسِحرا، بل على العكس قد تفوقهم في النضال من أجل تحرير الإنسان وبناء قدراته؛ ليستطيع أن يُقاوم كل ما يواجه من تحديات: الفقر، والجوع، والعنف، والاستبداد، والإمبريالية التي تعيق هذه المجتمعات... وغيرها من مجتمعات العالم الثالث.

رودريجو الذي أتحدث عنه هذا الأسبوع هو من الفئة "المنسية"؛ لأنها قد لا تحملُ شهرة أولئك الذين ذكرتهم، لكن ما يقوم به وغيره من التربويين على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية، وقد التقيته في أحد المؤتمرات منذ فترة، فبعثَ بداخلي تأملات كثيرة نتيجة إصراره على اللعب في ملعب المفكر البرازيلي باولو فيريري، وتبنِّيه فكره التربوي في تعليم الحرية وتحرير المقهورين. ولا أعرف حقيقة: هل أحدثكم عن الأستاذ فيريري أم عن التابع رودريجو؟ وكلاهما بعث في نفسي تأملات كثيرة في واقع مجتمعاتنا العربية وفلسفة التربية التي تحركها، وما إذا كانت تعمل على تحرير الإنسان أم تقييده وإفقاده الإحساس بالمحيط الذي ينتمي إليه؟

رودريجو حين التقيته كان في الستِّين من عمره، شخصية بسيطة جدًّا متواضعة، يرتدي ملابسَ بسيطة، بدلا من أن يرتدي بدلة فاخرة -وهو قادر على فعل ذلك- كما يفعل الآخرون الذين يأتون إلينا من العالم الغربي لإشعارنا بقيمة ما في ذلك، ربما لأنه يؤمن بأن الإنسان بقيمته وأفكاره وصلاحه وسلامه الداخلي، وبهُويته التي لا يجب أن ينزعها ليقلد شخصا آخر لكي يكون نسخة منه؛ فهو مثل أستاذه فيريري لا يُؤمن بالنسخ المتكررة التي ترغب بعض المجتمعات وأنظمة التعليم استنساخها لتفقد المجتمعات جوهرها وتفردها، كان يظهر بلحية خفيفة متبعثرة تداخل بياضها مع سوادها، لم يعمل على تشذيبها منذ فترة؛ لأنه لا يعنيه أن يتَّحدث شكله عنه بقدر ما يعنيه أن يتحدث جوهره. هذه الإشكالية التي يدركها هو ويعمل على مقاومتها خاصة في المواقف والصور النمطية التي يحملها الطلاب... وغيرهم عن السكان الأصليين في البرازيل، ويعمد إلى جعل التعليم وسيلة تحرير من ذلك، وتحقيقا للتضامن والتقبل الإنساني، لا يتكلم كثيرا، ولكن حين يتكلم يوجز ببلاغة وحكمة وكلمات قصيرة عن أشياء عميقة، لا يحاول أن يقدم نفسه ملمًّا، بل يعمل على إبراز النقص المعرفي لديه، كما يؤكد على ذلك فيريري من خلال تقديره الآراء الأخرى، وعدم القفز على إطلاق تعميمات وأحكام نابعة من ثقافته الخاصة وموقعه المعرفي، كان يُؤمن بما قاله فيريري عن نضال التربويين لكسر ثقافة الصمت؛ من خلال تبني حوارات مستمرة حول القضايا المختلفة التي تدرس للطلاب؛ فهو يرى أنَّ الوعي يتسع ويتشكل من خلال الاستماع إلى ما في داخل الآخرين؛ مما يقود للإحساس بهم ومعاناتهم وإلى تغيير لانطباعات السلبية التي نحملها عنهم.

لا يزال رودريجو مُصرًّا على أن يكون مُهاجما في ملعب الفيلسوف الكبير باولو فيريري الذي أجزم -رغم تأثير فكره التربوي على نطاق واسع عالميا منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم- إلا أنَّ كثيرا من التربويين في مجتمعاتنا العربية لا يعرفون عنه شيئا؛ ربما لأنهم لا ينظرون إلى التعليم على أنه وسيلة للتحرير من ثقافة الصمت، والإجابات الجاهزة، والتلقين السلبي الذي يُعيق تقدُّم الوعي، وهو ما حاول أن يلفت نظرنا إليه رودريجو في كل مداخلته في هذا المؤتمر، رابطا إياه بما يقوم به من أنشطة في البيئة البرازيلية لمقاومة التنميط والسلبية، وكأنه في ذلك مُتديِّن يتلو آيات من "كتابه المقدس"؛ ألا وهو كتاب "تعليم المقهورين" الذي أكد فيه أستاذه فيريري للعالم أن التعليم هو أساس لبناء النزعة للمغامرة والمخاطرة لبناء حياة أفضل، وهذا ما قاد مجموعة من فلاحي الريف البرازيلي الذين جلس معهم، وسط حقول قصب السكر في ستينيات القرن الماضي يُعلمهم القراءة والكتابة، يستخدمون محاريثهم الزراعية لكتابة  كلمة "الحرية" على أراضيهم الزراعية؛ لتكون هدفا يناضلون من أجله لتحقيق شروط أفضل للحياة؛ لذا لا يزال رودريجو وغيره من التربويين عبر العالم مؤمنين أن "المواطن الفاعل" الذي يرفع مستوى حياته للأفضل لا يُمكن أن يُعَد إلا بمنهجية حوارية فيها مناظرة وجدل وتواصل مع البيئة التي يعيشه فيها الطالب.

قادني رودريجو وغيره إلى التفكير في مراجعات في فكر التنمية والتطوير التعليمي لدينا؛ وأهمها: إعطاء فرصة للتواصل مع المجتمعات التي نتشابه معها في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وقيمية؛ للتعرف على رؤيتتهم لجعل التعليم أداة بنيوية في بناء واقع أفضل. لقد مَضَت عقود ونحن نؤم الغرب بحثا عن وصفات لتطوير أنظمتنا التعلمية ولم نفلح في إيجاد أية وصفة؛ لأنهم لا يشبهوننا من حيث سياقاتهم المختلفة، ولكن هناك دول أخرى تشبهنا ونشبهها، وعلينا أن نتعلم من الأقران والأقرب لواقعنا، المسألة ليست تعلم من المتفوقين بقدر ما هو تعلم من الذين يقدمون تجارب يقاومون بها الظروف التي نشترك فيها، علينا أن نحتك بهم وندعوهم إلى ندواتنا ومؤتمراتنا، ونستمع إليهم والمسألة الأخرى التي أثارها رودريجو فيَّ هي أهمية وجود فلسفة تربوية واضحة لكل مربٍّ، وهي غير خاضعة للحياد؛ إما أن يكون تربويا  قاهرا، أو أن يكون تربويا محررا.

علينا أن نعرف طبيعة الإنسان الذي نريد لكي نضعه في الجبهة الأولى في معركتنا مع المستقبل وتحدياته.. علينا أن ندرك أن "أنسنة التعليم" تختلف عن "حيونة التعليم"؛ فالعقل هو الفارق بين كلا العمليتين.. فإما أن ننشط العقل للنقد وتفكيك العالم من حوله أو أن نكبت العقل ونعيق الوعي؛ وبالتالي يتحول التعليم إلى "حيونة"، لقد وصف فيريري ذلك بدقة حين قال: "إن أصغر نحلة في بناء مملكتها تحرج أكبر معماري في العالم، وإنَّ أحقر عنكبوت في غزل شبكته، يحرج أكبر نساجة عرفها التاريخ. لكن النحل والعنكبوت لا يتخيلان هندسة ما ينويان القيام به؛ فهما فاقدان لمتعة التخيل وضرورة المسافة الواعية ممَّا يقدمان على عمله، وعلى العكس من ذلك؛ فالإنسان يمتلك ما لا يمتلكه الحيوان؛ وبذلك تفوق عليه".