النيل.. ربّ الجياعِ القديم

 

محمد علي العوض

يغلب الظن على أنّ اسم نهر النيل مأخوذ من الكلمة السامية "نهال" والتي تعني النهر قبل أن يحرفها الإغريق إلى نهيلوس ثم اللاتينيون إلى "فيلوس" ومنها "النيل" وكان قدماء المصريين يطلقون عليه اسم "حاب" و"حابور" و"حابي" كما جاء في مخطوطة بردي محفوظة بالمتحف البريطاني (لك الإكرام يا حابي، إنك تظهر لكي تجعل مصر تعيش، إنك تروي الحقول التي خلقها رع، وتمد جميع الحيوانات بالحياة، وعندما تنزل من السماء فإنك تمد الأرض بالمياه دون انقطاع، إنَّك صديق الخبز وكل ما يشرب، إنَّك تمدُّ الحبوب بالقوة وتجعلها تنمو وفيرة، إنَّك تملأ كلَّ مكان بالعمل، إنَّك سيّد السَّمك، إنَّك خالق الحنطة والشعير، إنَّك حامي الفقير والمحتاج، وأنت إذا قُهرت في السماء فإنَّ الآلهة ترتمي على وجوهها ويهلك الرجال وتموت النساء، وعندما تظهر على الأرض فإنَّ صيحات الفرح تملأ الهواء ويصبح جميع الناس سعداء؛ لأنَّ كلَّ شخص سينال طعامه، وكل سن ستمد باللحم، وأنت الذي تملأ مخازن المنازل بالأطعمة ومخازن الغلال بالحبوب، وتساعد الفقير والمحتاج، إنَّك أنت الذي تجعل الحشائش تنمو وتجعل كلَّ إنسان غير محتاج للآخر).

وكان الفراعنة كما يقول صلاح الدين الشامي في كتابه "دراسات في النيل" يؤمنون بأنّ الآخرة شبيهة بالدنيا ويوجد بها نيل أيضا، وأنّ النيل ينبع من النهر السماوي المحيط بالعالم، وقد شاعت هذه الأسطورة في بعض المؤلفات العربية في عصور متأخرة ابتداءً من القرن التاسع، حيث تتحدث عن بحر بين السماء الرابعة والأرض لولاه لاحترقت الأرض من حر الشمس. وقريب من هذا ما شاع في الإمبراطورية الرومانية من أنّ منبع النيل في الجنة الواقعة أقصى الشرق ومن آسيا، وإن كان البعض يرى أنّ هذه الجنة توجد في مكان ما بإفريقيا.

ولعل مفردة الجنة تحيلنا أيضا إلى ما أورده مسلم في صحيحه (سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ). وكذلك حديث المعراج الوارد في الصحيحين: (... قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أمّا الباطنان فنهران في الجنة، وأمّا الظاهران فالنيل والفرات).

عبد قدماء المصريين النيل من خلال عبادة الإله "نون" رب المياه الأزلية، وعدد من الآلهة المرتبطة بالنيل كالإله "خنوم" والإله "حابي" روح النيل و "أوزيريس" إله خصوبة الأرض والنماء والزرع الذي تبكيه الإلهة "إيزيس" ليلة "الدّمعة" فقد كانوا يعتقدون أنّه في مثل هذا الوقت من شهر يونيو كل عام تبكي "إيزيس" زوجها وأخيها "أوزيريس" فتسيل دموعها نهرًا يشكل النيل والفيضان.

أمّا في حضارة كوش السودانية القديمة فلم يثبت أنّ السودانيين عبدوا النيل؛ وإن كان مقدساً عندهم في عهد العبادات "الآمونية" لارتباطه بالإله آمون ربّ جميع الألهة؛ كالآلهة التي تنزل المطر فيمتلئ النيل، وآلهة الجبال والأراضي المرتفعة والشهور والفصول. وورد ذكر - النهر- في وصف الملك (هارسيونيق) رحلته لأرض نبتة التي تمّ تتويجه فيها:

يا ملك أرض المحس

تعال مندفعاً مع تيار النهر إليّ..

تعال هنا لمعبد آمون..

أعطي تاج الملوك أرض المحس

لأهبكم كل البقاع

ولأهبكم الفيضان العميم.

والأمطار الدافقة..

ويشير د. عمر حاج الزاكي إلى ارتباط عبادة الإله "آمون" بمصادر المياه في الفترة "النبتية" و"المروية"، فمعظم معابد آمون التي كانت تستضيف طقوس التتويج الملكية كمعبد "جبل البركل" ومعبد "صنم أبو دوم" ومعبد "تهارقا" تم تشييدها بالقرب من النيل، وكان "المرويون" يربطون بين "آمون" وما يرجونه من وفرة في المياه؛ فقد صلى الملك "تهارقا" للإله آمون من أجل الفيضان.

وبلغ التقديس للنيل أن تقدم له قرابين بشرية؛ فقبل دخول الإسلام للسودان كانت بعض القبائل ترمى إلى النهر فتاة عذراء في يوم عيد "الزينة" إرضاء للنهر حتى يفيض ولا ينقطع، ويسود اعتقاد بأنّ فترة حضارة الشهيناب (3500 – 6000 ق.م) لم تعرف المقابر، فقد كان يلقى بالموتى في النيل بصفته واهبا للحياة، ويُذكر ذلك بأبيات الصاغ محمود أبو بكر في ديوانه "أكواب بابل":

وصبية رسل أتوك بها زعموا الفداء بهن في دخر

قذفوا بها إليك وهي ناضرة لعمرك أنضر العمر

يرتبط نهر النيل في السودان بطقس "العبور" أي عبور الإنسان من مرحلة لأخرى، فتكون زيارة النيل بمثابة "تطهر" إذ يسود اعتقاد بأنّ مياهه تزيل ما علق بالنفس من درن أو عوارض؛ وإلى وقت قريب كانت النفساء (حديثة الولادة) لا تستطيع ممارسة نشاطها العادي والانتقال لمرحلة ما بعد الولادة إلا بعد زيارة النيل والتطهر بمائه، وينطبق ذات الأمر على الأرملة حيث يجب أن تزور النيل بعد فترة "العدة" لتعبر لحياة ما بعد موت زوجها وتستطيع ممارسة حياتها الطبيعية. والنيل كمزار يصاحب الإنسان السوداني في شتى أطوار حياته؛ بداية بالميلاد ومرورا بالختان ثم الزواج؛ فالعريس يزور النيل برفقة عروسته نشدًا للبركة والخصب، وفي هذا يقول الشاعر العامي السوداني:

عريسنا سار البحر يا عديلة

قطّع جرايد النخل الليلة زينا

ويحضر النيل كذلك في قصص المتصوفة وكرامات الأولياء، ويجيء ذلك في معرض تفوّق الصالحين على حتميّة الطبيعة، فكتاب (طبقات ود ضيف الله) أحد أشهر كتب التراث السوداني والمرجع الأول لدارسي التصوّف في السودان يورد أنّ الشيخ "مكي الدقلاشي" أراد أن يزور أحد أشياخه على الضفة الأخرى من النيل؛ لكنّه لم يجد مركبا لعبوره فمشى هو وتلاميذه على الماء حتى وصلوا للشاطئ الآخر.

تغنى الشعراء بالنيل كمصدر يشحذ الأخيلة والرؤى الإبداعية، وعدّوه من سلالة الفراديس لجماله وهيبته فهذا هو الشاعر التجاني يوسف بشير يصدح في ديوانه "إشراقة":

أنت يا نيل يا سليل الفراديس

نبيل، موفق، في مسابك

ملء أوفاضك الجلال فمرحى..

بالجلال المُفيض من أنسابك

حضنتك الأملاك في جنة الخلد

ورفّت على وضيء عُبابك

 

كما سألوه سرًا وجهرًا عن كنهه ومكانه كما فعل أحمد شوقي:

 

من أي عهدٍ في القرى تتدفق ** وبأي كفٍ في المدائن تغدق؟

ومن السماء نزلت أم فجرت من ** علياء الجنان جداولَ تترقرقُ؟

 

وتسري حالة التساؤل إلى إدريس جماع فيتأمل سر النيل العظيم:

وادٍ من السحر أم ماء وشطآن

أم جنة زفّها للناس رضوان؟

كل الحياة ربيعٌ مشرقٌ نضر

في جانبيه وكل العمر ريعان

تمشي الأصائل في واديه حالمةً

يحفُّها موكبٌ بالعطرِ ريان

 

ولعب النيل دورًا كبيرًا في المشغل الروائي السوداني المصري؛ فرواية "صهيل النهر" للكاتبة السودانية بثينة خضر مكي تناولت الأساطير القبلية لسكان ضفافه، وكذلك رواية "النهر" لمؤلفها المصري السيد فهيم، ورواية " ثرثرة فوق النيل" التي وظف فيها نجيب محفوظ النيل كرمز حامل لتراكمات الثقافة المصرية.

ويكاد النيل يشكل ثيمة راتبة في كل روايات الطيب صالح؛ فالنيل عصب الحياة والقوة الطبيعية الخارقة التي يأتمر بها سكان القرية، ومكان التحوُّلات والبعث والزوال؛ ومن أول قصّة قصيرة نشرت للطيّب صالح "نخلة على الجدول" يستقبلك النيل باسطًا سلطانه متحكمًا في رقاب العباد، ويتبدى حضوره كذلك في رواية "ضو البيت بندر شاه" و "موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين" و "مريود".